«يمر الوقت مسرعا، فها هو عام كامل قد مضى، قدمتم فيه كل الدعم لنا، عامٌ من الضحك، الهتاف، الابتسامة والانبهار. عام خلاله أحاط بنا تشجيعكم لفعل المزيد في كل مناطق المملكة. كان اختياركم لنا دافعا لنبذل المزيد سعيا للخير والسعادة ونتابع المشوار لنقدم للمملكة أفضل صناعة ترفيهية، فمن أعماق قلوبنا نشكركم؛ ثم نأخذ نفسا عميقا لنستطيع إسعادكم أكثر في السنة الثانية». بهذه العبارات المتفائلة والقريبة من الأنفس ختمت الهيئة العامة للترفيه فعالياتها لعامها الأول في المملكة العربية السعودية، مخاطبة الجمهور الذي قدمت له فعاليات مختلفة ومفاجئة في بعضها لم يعتد عليها المجتمع السعودي، وتعده بتقديم المزيد والمختلف. كانت من ضمن الفعاليات مهرجانات تسويقية وعائلية وأخرى رياضية وخاصة بالطفل، ولكنها أيضا كسرت الجليد وأثارت الاستنكار باستضافتها لشخصيات مثيرة للجدل وإعلانها لاستضافة آخرين قادمين كديباك شوبرا وأوبرا وينفري، كما أعادت الحفلات الموسيقية إلى داخل الوطن بشكل خجول ومحدود في المدن الكبرى. كما قدمت فعاليات للمرة الأولى تقام في المملكة كاستضافة موسيقيين عالميين، أمثال عمر خيرت والموسيقار الهنغاري يوجاني، وأيضا إقامة الحدث الفريد من نوعه باستضافة الأوبرا اليابانية التي أحيت في مدينة الرياض أوركسترا فنية شارك فيها 80 عازفا موسيقيا، بقيادة رئيسة الفرقة «أماسيكي يوميكو» التي تعتبر أول امرأة تقف للغناء على مسرح مركز الملك فهد الثقافي منذ تأسيسه.
الملاحظ أنه خلال عام واحد قدمت هيئة الترفيه من خلال روزنامتها ما لم تستطع أن تقدمه مؤسسات حكومية أخرى في مجال الترفيه والتثقيف والتغيير في المجتمع، وإن طالتها بعض الاعتراضات التي لا تعدو كونها حروبا كلامية واستعراضات حزبية تلاشت مع الواقع الذي فرض بقوة المؤسسة التي تقوم بهذه الفعاليات، خاصة أنها ضمن خطط وبرامج رؤية 2030 التي تحمل في جنباتها تغييرات جذرية للمجتمع تقدمها بتأن وتسير بها ببطء وثقة.
في المقابل من هذا التمكن للترفيه بأنواعه، وتمكين الموسيقى والغناء في فعاليات رسمية وغير رسمية تحت مظلة هذه الهيئة؛ نجد أن هناك مؤسسات حكومية تقاوم مثل هذا التغيير وترفضه وتبتعد بأجندتها وأساليبها عن الواقع الجديد، خاصة إن كانت مسؤولة بطريقة أو بأخرى عن توعية المجتمع وتنويره والمساهمة في تغييره، برفع قيم الثقافة والفن والجمال، ومحاربة الأيدلوجيات التي فرضت على المجتمع وحرمته من ممارسة حياة طبيعية في كل مساراتها وأوجهها حتى صار يخشى استضافة ما يخالف هذه الأدلجة فنيا أو ثقافيا أو فكريا تحت مظلتها.
قصة «الناي» الذي تواترت حوله الأخبار خلال الأيام الماضية بأنه كان سببا في إلغاء أمسية شعرية في محافظة محايل عسير، كان سيعزف عليه أحد الشباب الهواة المبدعين رفقة عدد من الشعراء، توضح هذه المفارقات العجيبة في إقامة الفعاليات بين مختلف المؤسسات الحكومية التي تهدف لتوعية وترفيه وتنمية المجتمع، وتكشف البون الشاسع الذي يعيشه المجتمع من مكان لآخر، ومدى الحاجة لردم مثل هذه الفجوات بمؤسسات قادرة على فرض «روزنامتها» دون مقاومة وتحايل. بعيدا عن الخلافات الإدارية والتنظيمية التي يتبادلها نادي أبها الأدبي ولجنة محايل عسير الثقافية المتفرعة منه والأفراد المنظمين لتلك الفعالية الملغاة؛ فإن لا أحد ينكر أنه في غالب الأندية الأدبية التابعة لوزارة الثقافة والإعلام لا يستطيع حتى الآن أن يقف عازف موسيقي من المواطنين وأن يشارك بمقطوعاته الموسيقية في مناسبة ثقافية عامة رفقة شعراء أو ساردين أو مفكرين، فضلا عن أن تقام له أمسية خاصة لتذوق فنونه أو تشجيع موهبته إن كان مبتدئا. قد يقول البعض إن جمعيات الثقافة والفنون هي المعنية بهذا الأمر؛ ولكن المشكلة في رفض إحياء الفنون السمعية وتعليمها قائمة فيها أيضا، وإن كانت مع قيام هيئة الترفيه استطاعت بعض الفروع لجمعيات الثقافة والفنون في بعض المناطق تجاوز ترددها وحذرها وإقامة دورات تدريبية على بعض الأدوات الموسيقية من وقت لآخر.
الازدواجية بين التوجهات الحديثة للدولة والتي تتماشى مع تطلعات اجتماعية واقتصادية وفكرية، وبين بعض المؤسسات القديمة المليئة بالحرس القديم المقاوم للتغيير والرافض لنزعة الحداثة والتنوير السائدة تسبب صداما وشتاتا، خاصة لدى الشباب المتطلع لتبني مواهبه وأدواته المعرفية والفنية التي يمتلكها ويستطيع من خلالها منفعة نفسه ووطنه. الثبات في المنجزات والتكرار الذي تعيش فيه الأندية الأدبية منذ سنوات والرتابة في الطرح والموضوعات والفعاليات التي تكاد تعزلها عن المجتمع وتحصر ما تقدمه لفئات وأفراد محدودين تعد نوعا من الاستنزاف للوقت والمال، خاصة إن استمرت في مقاومة التغيير والتجديد في الطرح ثقافيا وفكريا وفنيا، وقد يكون أجدى ونحن منذ سنوات ننتظر تحويلها لمراكز ثقافية شاملة أن تلغى وتضم فعالياتها للهيئة العامة للترفيه حتى تحصل على التخطيط والدعم الذي يجعل منها ذات فعالية وإنجاز، خاصة وأنها تنتشر في جميع مدن المملكة، ومن خلالها تصل فعاليات روزنامة الترفيه إلى كل المناطق وتصل لكل الطبقات والفئات الاجتماعية. وقد تصبح مع الأيام محطة لاستقطاب الشباب الموهوب والمبدع كل في منطقته وما يملكه من أدوات فكرية وثقافية وفنية، وبدلا من أن نبتهج باستضافة «ياني» أو «يوجاني» مرة أخرى، نصفق فرحا لاستضافة عازف ناي يحمل ملامحنا ويتحدث لغتنا ويترنم بأغانينا ويعزف أحلامنا دون خوف الرفض والإقصاء.