هذا عنوان كتاب صدر قبل أيام للباحث الأستاذ محمد جمال باروت، وهو جزء من مشروع يشتغل الباحث عليه متعلق بالتاريخ السياسي السني-الشيعي، ولا سيّما في بلاد الشام، في سياق تفكيك الصراع الطائفي في المنطقة، وفهم ما جرى وما يجري وعلاقة ذلك بالوضع السياسي قديمًا وحديثًا.
لم يدر في خلد الباحث – كما يوضح في مقدّمة الكتاب – أن يتكلم عن ابن تيمية، بل كان كل همّه بحث إعادة إنتاج الصراع الطائفي حديثًا – ولا سيّما في الشام ولبنان خاصّة - باعتماد العودة إلى التاريخ القديم، وكانت قضية «حملات كسروان» ذات مركزية في أبحاث مؤرخين لبنانيين مختلفي الطوائف (مارونيين، ودروز، وسنة، وشيعة)، سعى كل منهم ليثبت تاريخيًا أن «طائفته» هي التي كانت تسكن هذا الجبل، في خضمّ «فورة الذوات الطائفية» كما أطلق عليها الباحث.
وهنا بدأ الباحث يناقش المؤرخين اللبنانيين فردًا فردًا في مناهجهم في كتابة التاريخ، ويناقش سردياتهم التاريخية التي يصفها بأنها «متركزة طائفيًا»، ويأتي بالنصوص، ويعود بها إلى أصولها، ويقارنها بنصوص أخرى، ويأتي بنصوص جديدة غابت عن ذهن كل مؤرخ منهم عمدًا أو سهوًا، ويطلق على المؤرخين سهام نقده العلميّ «اللاذع».
ثم ينتقل بعد ذلك ليعيد سردية تاريخ جبل كسروان عن طريق «شاهد عيان»، بل فاعل سياسي واجتماعي مؤثر، هو «شيخ الإسلام» أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية الحرّاني ثم الدمشقي.
ويؤرخ الباحث للحملات على كسروان ابتداءً من الحملة الأولى التي لم تحدث، وانتهاء بالحملة الثالثة التي شارك فيها ابن تيمية. أما الحملة الثانية (وهي الأولى فعليًا) فقد حصلت سنة 691 هـ، أي قبل الحملة الثالثة (الثانية فعليًا) بتسع سنين، وفي الحملة الثالثة شارك ابن تيمية مشاركة فعّالة.
قامت الحملة الثالثة على «أهل الجبل» بعد حرب «وادي الخزندار» التي غزا بها الجيش التتاري دمشق، عام 699 هـ، والتي أبدى فيها ابن تيمية بطولة نادرة المثال، فثبت حين فرّ غيره، وحرّض أهل دمشق على الثبات، وقام بين يدي ملك التتار (الذي أسلم على مذهب الشيعة الإمامية)، ووقف أمامه وقفة شجاعة، وطالبه بتأمين أهل البلد، وبإعادة ما سلبه جيشه من أهل دمشق، بل يذكر المؤرخون أنه دعا عليه حتى خيف على ابن تيمية من القتل لهذا السبب.
كان موقف أهل الجبل موقفًا رأى فيه المماليك غدرًا، إذ عاونوا الجيش التتاري على الجيش المملوكي المهزوم فنزلوا من الجبل، وقتلوا من قتلوا، ونهبوا فلول جيش المماليك وسلبوا، وكان هذا – كما يقول المؤرخون – أنكى بالجيش من الهزيمة.
كانت أشدّ مناطق دمشق تضررًا منطقة الصالحية التي يقطنها «الحنابلة»؛ إذ أوسع جيش التتار أهلها قتلًا ونهبًا وأسرًا، وقُتل من علماء الحنابلة وفقهائهم ناس كثر، سجل بعض دواوين التاريخ أسماءهم رجالًا ونساءً، مما أحزن قلب ابن تيمية وأغضبه وهو الشيخ الحنبليّ.
وهنا يبدع الباحث – يبدع حقًا – في ربط فتاوى ابن تيمية وآرائه ومواقفه وأحكامه وعلاقته بالخصوم؛ بالسياق التاريخي، ويعيد بناء تلك الأحكام والآراء والفتاوى على وفق الأحداث، بل أرّخ بعضها تأريخًا معقولًا مسجلًا نباهةً ملحوظة في اقتناص تاريخ إطلاق هذه الفتوى أو تلك، بناء على ما جرى من حوادث، ومسجلًا كذلك سبقًا في منهجية قراءة فتاوى ابن تيمية، وترتيبها تاريخيًا، وهو عمل يحسب له، فيذكر بعض الفتاوى ويضعها في تاريخها الملائم، وهنا يرى الباحث أن حادثة الصالحية المؤلمة كانت سببًا في أن ينتقل ابن تيمية من ابن تيمية الأوّل، الشابّ الحنبلي النابه الذكي الذي يدرّس في مكان أبيه، والمعنيّ بالعقيدة السلفية «الصافية» وتأصيلها، وذي العلاقة الإيجابية ببعض أعلام الشيعة وفقهائهم كالجمال بن الحسام الذي كان يعتاد مجلس ابن تيمية ويناظره أحيانًا، وكذلك شمس الدين السكاكيني الشيعي، ونقيب الأشراف زين الدين بن محيي الدين بن عدنان (وهو الذي رافق ابن تيمية في ذهابه إلى جبل كسروان ليقنع أهله بالخضوع للسلطة المملوكية ويقيم الحجة عليهم)، إلى ابن تيمية الثاني الفاعل اجتماعيًا وسياسيًا، والذي بدأ فيها «يحتدّ» على الشيعة وطوائفهم، وعلى الصوفية، وازدادت علاقته توترًا بعلماء عصره من الأشاعرة.
وهنا يثبت الباحث أن نهب الصالحية هذا، وما رأته دمشق على يد الجيش التتاري وملكه (الشيعي) قازان، كانا سببًا في تحوّل ابن تيمية إلى غير ما كان عليه، فلم يكن ابن تيمية عدوًا للشيعة جميعهم أصالةً، ولكن الأحداث التي جرت كانت سببًا في هذا التحوّل.
هنا يبرز ابن تيمية الثاني، وهنا تبرز شخصيته شخصية مؤثرة في الشام دينيًا واجتماعيًا وسياسيًا، وهنا يتخذ ابن تيمية مركز الثقل، فيضغط على السلطان في مصر، ويقوم في دمشق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالتعزير، وبحفظ الأمن والأمان، وهنا تبرز فتوى الطائفة الممتنعة (التي لا تزال فعّالة حتى اليوم ويعود إليها الجهاديون)، وهنا يشارك ابن تيمية في الحرب على كسروان التي كانت عام 705 هـ، ويقاتل ويناجز بالسيف. وبعد هذه الحملة بدأ يبرز ابن تيمية الثالث، وتحديدًا بعد عودة الخصومة بينه وبين علماء الأشاعرة التي رُحّل فيها إلى مصر وسجن فيها هناك، وبدأت علاقته تتوتر بالسلطان المملوكي، وفي هذه المرحلة أطلق ابن تيمية فتوى ماردين، وفيها أيضًا كتب الردّ ابن المطهر الحلي، في إطار توتر العلاقات التتارية-المملوكية في ذلك الوقت، وكذلك فتواه في النصيرية التي كانت صدًى لتضييق السلطان عليهم.
كل تلك الفتاوى، في مراحل ابن تيمية الثلاث بحسب تقسيم الباحث، درسها الباحث عن طريق «التناصّ» بينها، واستطاع أن يضعها في سياقها التاريخي وضعًا أراه موفقًا وجديرًا بالتأمل.
ليقرر في نهاية الكتاب، كيف تزول شروط الفتاوى وأسبابها وواقعها، وتبقى الفتاوى ذاتها لتتحوّل من كونها عاملًا ثانويًا إلى أن تضحي عاملًا أساسيًا يؤثر في واقعنا المعاصر.
قد أتفق مع الباحث محمد جمال باروت وقد أختلف؛ غير أن كتابه هذا يعد فتحًا غير مسبوق منهجيًا وتاريخيًا في دراسة ابن تيمية خاصة، بل فتاوى علماء الإسلام المؤثرين عامّة، ونحن في حاجة إلى أمثال هذه الدراسات.