اقترب موسم الامتحانات النهائية في المدارس والجامعات، وكلما اقتضت الأهداف التي يعلقها الطلاب وأسرهم
على الامتحان، نتائج ممتازة تؤهِّل لها وتسمح ببلوغها، ارتفع الاهتمام بالامتحان والقلق بشأنه. وكلما تفاوتت الهمم والمقاصد فيما تتطلع إليه من أهداف، تفاوتت -بالتبعية- عند أصحابها، المعاني المتعلقة بالامتحان، ودرجات الاستعداد له.
وليست المسألة في وجود أهداف معلَّقة على نتائج الامتحان من عدم وجودها، فمن دون تلك الأهداف تنتفي الحاجة للامتحان من أساسها.
المسألة هي في مقدار الوعي بتلك الأهداف، والحسبان لها سواء انبعث هذا الوعي -لدى الناشئة- من إدراك عقلي تُنضجه المعرفة وتستدعيه القدوات والنماذج التي تصنع جاذبية باتجاه الرغبة في مشابهتهم والاقتداء بهم، أم كان هذا الهدف ناتج حاجة لدى بعضهم، قد تكون إلحاح ظروف اقتصادية أو اجتماعية ومعيشية، بحيث ينتج عن ذلك هدف أعلى للدراسة والتخصص وطبيعة المهنة.
والمؤكّد أن تضاؤل الوعي بأهداف الدراسة في المراحل المختلفة، وضعف التطلع والتوق إلى المستقبل من ورائها، لا بد أن يبتعث في نفوس التلاميذ والدارسين التكاسل، والفتور، والتلاعب، والملل، والبلادة... وليس النشاط، والهِمَّة، والجدِّية، والاشتياق، والتوقُّد.
هكذا لا يغدو الامتحان قياسا لمستوى تحصيل الطلاب للمقررات الدراسية المطلوبة منهم في الصفوف والمراحل والأقسام المختلفة، واجتيازها وحَسْب، بل هو -أيضا- امتحان للوعي الاجتماعي برُمَّته تجاه المستقبل والتقدم والعلم والعمل، والأخلاقيات التي تعكس ذلك الوعي.
فالامتحان ليس لحظة انكشاف للذات أمام آخرية تُعيِّن لها قيمتها وكفاءتها، بقدر ما هو انكشاف للذات أمام ذاتها، وإذا لم يبلغ الامتحان هذه الدرجة من مَوْضَعة الذات لذاتها، وتبادلها مع الامتحان الدور الذي تعلو فيه الذات على ذاتها لتمتحنها، فإنه لن ينعكس عليها بفائدة ولن يُسهم في تطورها.
وهذه نتيجة لا تنفصل عن العلاقة بين ما يشكِّله الامتحان من معنى وقيمة وأهمية لدى الطلاب، ومقدار ما يبتعثه من قلق وتوتر لديهم، من جهة، وبين وعيهم -من جهة أخرى- بأهداف وغايات ذاتية لهم تتحقق وفق الكفاءة التي يثبت الامتحان حصولهم عليها، والمعرفة التي يبرهن على امتلاكهم إياها.
ليس الامتحان، إذن، شكلا دون مضمون، وليس له من اسمه نصيب إن لم تنته نتائجه إلى قياس الكفاءة، وحساب المعرفة المتحصلة، وتمييز المستويات. وحين يعجز الامتحان عن تحقيق هذا المؤدَّى، أو يَتَلاعب به، يغدو بلا قيمة، ويتبادل مع ضعف التعليم وفساده العلة ومعلولها.
وأتصور أن الدرجة الأليمة والقاسية في الإحساس بضعف التعليم وفساده، هي تلك الدرجة التي لا يبالي فيها كثير من الدارسين بنتائج الامتحان، ولا يجدون فيه ما يبتعث قليلا أو كثيرا من قلقهم واهتمامهم، وهي الدرجة التي ينفصل فيها الامتحان عن أي رغبة في انكشاف الذات أمام ذاتها، أي عن الشعور بالمسؤولية الذاتية عن الامتحان.
وليس تردي مستويات الجامعيين في المهارات العامة التي يعمل التعليم على تحقيقها وإجادتها في مراحل التعليم العام، مثل مهارات القراءة والكتابة، إلا وجها من الوجوه الدالة على افتقاد المتعلمين المسؤولية، وافتقاد امتحاناتهم الدقة في قياس نتائجهم.
والمثال الذي يجتمع فيه الدليل على ذينك الوجهين، تغريدة طبيب في الأيام القليلة الماضية كانت أخطاؤها الإملائية كثيفة، مما يتعلم صوابه طلاب الابتدائية، وكان الأكثر دلالة على الشعور بعدم المسؤولية هجومه وزملاء له هجوما هازئا ومستخفا، على من عاتبه على أخطائه تلك، وقلة الاكتراث بفضيحتها لهم، وهي فضيحة في الحقيقة للتعليم الذي خرّجهم، وهم لا يفرقون بين التاء المربوطة والمفتوحة.
عدم الشعور بالمسؤولية من المتعلمين تجاه الامتحان، لا تقتصر علاماته ودلائله على ضعف المهارات العامة لدى الخريجين، بل يتجاوزها إلى مظهر آخر هو تباهي أصحاب الشهادات الزائفة المشتراة من جامعات وهمية بها علنا، من دون الاضطرار إلى الحسبان لما تقتضيه من الكفاءة والمعرفة، أو المبالاة بالتشويه الأخلاقي الذي يطاول أمانتهم ومروءتهم وحسهم بالمسؤولية بسببها.
لكنها مسؤولية لا تنفصل عن مسؤولية المجتمع تجاه الامتحان، فالامتحان فعل يمثِّل المجتمع كله، ويمارس المجتمع عَبْره سلطته الأخلاقية والمعرفية، ومسؤوليته في الحفاظ على قوة مؤسسته التعليمية، وعلى صدقية ما تثبته شهاداتها وما تشهد به لحامليها.
ولهذا فإن من يكذب في الاتصاف بمستوى لم يبلغه فعليا أو لم يستكمل له عدَّته، ومن يكذب بإعلانه الحصول على شهادة زائفة، عليا أو دنيا، فإنه لا يكذب بمفرده، بل يكذب معه المجتمع الذي أتاح له أن يكذب، لأنه لم يكن من الصرامة القانونية والأخلاقية في المستوى الذي لا يجرؤ فيه الكاذب على كذب يتباهى به ويتعالى.
تمثيل الامتحان للمجتمع في الحفاظ على قوة المؤسسة التعليمية فيه وصدقيتها، هو الوجه الموازي تماما لتمثيل الامتحان للمجتمع في الارتقاء بكفاءة قطاعات العمل المختلفة، وقطاعات البحث العلمي والتنمية الثقافية التي تتبادل مع طبيعة التعليم ومستواه الفاعلية والمفعولية.
فقطاعات العمل التي لا تنتقي الكفاءات، ولا تعمل على تأهيلهم وتطوير قدراتهم باستمرار، تُخفق لا محالة، وكما يتسبب ضعف التأهيل في هذا الإخفاق فإن عدم التمييز بين المستويات العلمية والملكات والخبرات لدى العاملين هو علة العلل؛ لأن كوادر العمل تفقد الدوافع إلى التأهيل واكتساب المهارات وروح المنافسة.
وهذه الممارسة هي فعْل الامتحان ووظيفته وعلته ومبرره في المدارس والجامعات، فإذا فقد الطلاب ما يميز بينهم في القدرات والمواهب والمستويات، فقدوا روح التنافس، وفقدوا الجدية والإقبال الذاتي من أنفسهم على التعلُّم.
العلاقة بين التعليم وقطاعات العمل، في ضوء ذلك، علاقة مؤكدة، بحيث يمكن أن نجد تبادلا للسبب والنتيجة بين الجهتين، فقوة التعليم ترقى بقطاعات العمل وتقوِّيها، والعكس صحيح بالقدر نفسه، من دون أن نغفل هنا عن أن التعليم نفسه قطاع من قطاعات العمل، يضعف ويقوى بالمعيار نفسه.
وإذا كان العمل يضعف -فيما يضعف- لأنه لا يجد الكفاءات الوطنية الناضجة تعليميا، فإن التعليم يضعف -فيما يضعف- لأنه يقيس ذاته على شروط متدنية للكفاءة يتطلبها السوق، وربما لا شروط في السوق مطلقا للكفاءات وإنما للواسطات والمحسوبيات، أو لأن السوق ليس مجبورا على تمييز تلك الكفاءات بعدالة، فيمكن له الاستقدام من الخارج، أو لا تتوافر فيه وظائف وفرص عمل.
وأظن أن نظرة إلى الامتحان بمعنى أشمل من الانحصار في الامتحان المدرسي، سترينا أنه يحتل موقعا مركزيا في الحياة، فالإنسان يواجه الامتحان في مواقف حياته التي قدرها الله له، بمستوياتها المختلفة، حتى لتغدو الحياة برُمَّتها امتحانا على الإنسان أن يُثبت فيه، أمام الظروف بأنواعها، وأمام ذاته، وأمام الآخرين، قدرته على الاضطلاع بها، والمحافظة عليها، والارتقاء بها، واجتيازها إلى ما بعدها.