يرتبط التعليم عند معظم الناشئة بالوظيفة ارتباطا لازما؛ حتى تجد أحدهم إذا سئل لماذا تدرس؟ أجاب: لأصبح طبيبا أو معلما أو مهندسا.. إلخ. هذا الارتباط تحول مع الوقت إلى ما يشبه التلازم الشرطي بين (الدراسة، الشهادة، الوظيفة)، فكل طالب يلتحق بالتعليم يظن أن وظيفته جاهزة بمجرد حصوله على الشهادة الجامعية، وأن الدولة ملزمة دائما بخلق تلك الوظيفة لتبقى في انتظاره. هذا التلازم الشرطي خطير على تكوين الطلاب النفسي، والدليل على ذلك ما نجده عند الخريجين العاطلين من مشاعر الخيبة والخذلان، وما يترتب عليها من إحباط وضعف للدافعية.

وحين نذهب لنتقصى الأسباب التي أدت إلى خلق هذا الوهم حول إلزام الدولة بتوفير الوظائف لكل المتعلمين، نجد أن التعليم  يتحمل جزءا من المسؤولية، فالطالب لا يكتسب العلم لذاته ومن أجل ذاته، ولا يعرف هدفا يربط به تعلمه إلا الحصول على الوظيفة. وحين يتخرج من التعليم بهذه العقلية فإنه لن يقصد جهة أخرى غير الخدمة المدنية لطلب الوظيفة. والخدمة بدورها ستفعل ما فعله التعليم به فتعلقه على حبال الأمل سنين، تذهب بشبابه وتقتل أحلامه.

إن وزارة التعليم ووزارة الخدمة ملزمتان بمراجعة سياستهما في التعامل مع أجيال المتعلمين والخريجين؛ الأولى في سنوات دراستهم حين تجعل الوظيفة الحكومية تحديدا، أقصى طموحاتهم، والثانية بعد تخرجهم حين تستقبل طلبات كل المتقدمين على الوظائف المعلنة؛ سواء حصلوا على الشهادة بتقدير عال أو حتى بتقدير منخفض، ما يبقيهم سنين على كشوف الانتظار، فتتضاعف آلامهم ويزيد حنقهم.

عندما كنّا في المرحلة الابتدائية كانت المدرسة تعلمنا أن نستثمر بسهم في المقصف المدرسي، حتى نحصل على ربح جيد نهاية العام، وكنّا بالفعل ندخل بسهم أو أكثر، ونشارك في أعمال المقصف حتى تتضاعف أرباحه ونحصل على نصيبنا منها. كنا نفعل ذلك ونحن نتصور أن لدى المدرسة رؤية مستقبلية واضحة حول هذا المشروع الذي نحن جزء منه، وأنها تحاول تعليمنا بطريقة عملية شيئا ما من أجل المستقبل، لكنه تبين لنا لاحقا أن الوزارة تخلت عن تعليمنا نحن المستثمرين الصغار، وآثرت تسليم مقاصفنا المدرسية للتجار الكبار حتى تحقق أرباحا لا علاقة لنا بها.

في سلطنة عمان يدرس الطلاب في الصفوف العاشر والحادي عشر والثاني عشر مقررا يحمل عنوان (مسارك المهني)، ويعين لكل طالب مشرف مهني يعينه على تحديد رغباته وحصر اختياراته للمستقبل الوظيفي، حتى يكون الطالب مهيأ لدخول الجامعة أو متفهما لرغبته الأخرى في دخول برنامج مهني أو تقني، فلا تجده يضع ملفا هنا وملفا هناك وينتظر القبول في أي جهة، ثم إذا التحق بالجهة التي قبل فيها -بصرف النظر عن ميوله- اكتشف بعد أعوام أنه كان يسير في الطريق الخطأ.

حاولت أن أبحث في مناهجنا عن مقرر يشبه هذا المقرر من قريب أو بعيد فلم أجد، حتى مقرر المهارات التطبيقية الذي يدرس في المرحلة الثانوية للطالبات يبدو في صورته الحالية مجرد تدوير لمقررات التربية الفنية والنسوية؛ وهو بهذا الوصف مقرر مجهد جسديا وفكريا ومكلف ماليا؛ لأن معظم الطلاب يلجأ إلى المكتبات ومراكز البيع لإنجاز تكاليفه المرهقة.

  أظن أن الحاجة باتت ماسة لتفهم احتياجات طلابنا في مراحل التعليم العام، ولتفهم احتياجات سوق العمل أيضا، ثم العمل على ربط تلك الحاجات؛ من خلال خلق ميول جديدة عند المتعلمين نحو الحرف والصناعات والمهارات الأخرى، وإذكاء روح المنافسة بينهم في المشاريع الصغيرة؛ فالدولة- أي دولة ومهما كانت إمكاناتها ومواردها- لا تستطيع أن تخلق لكل مواطن وظيفة تناسبه وترضي ذوقه وطموحه، لذا على وزارة التعليم أن تعيد النظر في هذا الترابط الشرطي وتسعى إلى تفكيكه بالطرق والأساليب المبتكرة؛ مستعينة على ذلك بنتائج التجارب العالمية وبالبحوث العلمية في هذا المجال. وعلى وزارة الخدمة أيضا أن تراجع سياستها في استقبال طلبات المتقدمين للوظائف كل عام، فتلجأ مثلا إلى الاشتراط الذي يجعل الخيارات محدودة، ويذكي روح المنافسة بين الفئة التي يقع عليها الاختيار، وتبتعد في إعلاناتها الوظيفية عن صيغ التعميم، مثل (على جميع الراغبين، جميع المتقدمين)؛ لأنه قد تبين أن مثل تلك الصيغ لم تحقق ما تريده الدولة ولا ما يرغب فيه المتقدم للوظيفة طوال العقود الماضية.