تحتاج هذه المسألة إلى بحث طويل، واستقراء تام أو شبه تام؛ هل في الإسلام نظام محدّد للدولة؟ أو فلنقل – بحسب التعبير الحديث – شكل محدد للدولة؟
بعد سقوط ما يسمّى «الخلافة العثمانية»، وأكرّر مرارًا وتكرارًا أن تسمية «الخلافة» لم تنطبق حق الانطباق إلا على عهد «الخلافة الراشدة»، وعلى عهد الخلفاء الأربعة المهديين المرضيين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ. أما ابتداءً من عهد الأمويّين فلا يمكن تسميتها خلافة بالمعنى الدقيق للفظة «الخلافة»، بل ما كانت إلا ملكًا يقوم على التغلب وولاية العهد، وهكذا مضى تاريخنا الإسلامي على هذا النظام، حتى جاء عهد الدولة القطرية الحديثة.
ومصطلح «الخلافة» ذلك الزمن إنما كان يعني خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن تلا النبي بعد وفاته فهو «خليفته» في أمّته، حتى جرى ما جرى من شأن الفتنة، وتسلّم الأمر معاوية بن أبي سفيان، ومنذ ذلك الحين حتى نهاية عهد السلطنة العثمانية، كان «شكل الدولة» سلطانيا ملوكيا. وكانت الخلافة – بعد عهد المتوكل – خلافة صورية في معظم الأحيان، تنضوي تحتها ممالك يتصارع ملوكها، وينافس بعضهم بعضًا في التوسّع والتمدد والقوّة وبسط النفوذ.
بل حتى مصطلح «الدولة» في تاريخنا الإسلامي، لا يعني بالضرورة معنى الدولة الحديث (State)، بل معناه من التحوّل، وفي هذا يقول ابن فارس في مقاييسه: «(دَوَلَ) الدَّالُ وَالْوَاوُ وَاللَّامُ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى تَحَوُّلِ شَيْءٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَالْآخَرُ يَدُلُّ عَلَى ضَعْفٍ وَاسْتِرْخَاءٍ» انتهى كلامه. قلت _ أي رائد السمهوري - ومنه التداول، أي تحوّل الأيام من يد إلى يد، أو من عهد إلى عهد، ومنه قوله تعالى: {وتلك الأيام نداولها بين الناس}.
ومن هنا أزعم أنا أنْ لم يفهم السابقون الدولة أنها تعني (State)، كما هو الحال اليوم، فإذا قيل: دولة بني العباس (وفي زمانهم انتشرت لفظة الدولة في نطاق سياسي)؛ فالمقصد عهدهم، وتحوّل الملك وانتقاله إليهم، كأنك تقول: دور بني العباس، وعهد بني العباس، وانتقال الملك إلى بني العباس، ولم يكن المقصد ما يفهمه – أو ما يريد أن يفهمه – بعض الناس هذه الأيّام، من المعنى الحديث للفظة «الدولة». ومن هنا أتساءل عن تسمية «الدولة الإسلامية» كما تطلقها (داعش).
بل لقد بحثت ما وسعتني همتي الضعيفة فلم أجد مصطلح «دولة» بالمعنى الحديث، ورد في القرآن، ولا في السنّة النبوية، ولم يكن متداولًا بين الصحابة شيء اسمه «دولة النبيّ»، ولا دولة «الراشدين».
وقد تجد كتبًا ومقالات كثيرة تتكلم عن «دولة النبيّ»، منها كتاب كامل الدقس بعنوان: «دولة النبي من التكوين إلى التمكين». وكأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جاء ليؤسس دولة! مع أن آيات القرآن الكريم ناطقة بأنه {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا}، وناطقة بـ {إنما عليك البلاغ}.
وفي القرآن الكريم آيات تقطع بوجوب العدل وتحريم الظلم – ولو مثقال ذرة -، والنهي عن الطغيان، والأمر بالإحسان. وفيه تشريعات قطعية الدلالة بلا شك، لكنّ الكتاب الكريم لم يحدّد شكلًا معيًنا لنظام الحكم، ما يوحي بأنه أمر متروك للاجتهاد البشري عصرًا فعصرًا، وبما هو الأصلح للناس، ما دامت القيم الإسلامية العليا المجمع عليها، محفوظة. أما العقوبات وغيرها من تشريعات الدين، فما كان قطعيّ الدلالة منها فلا يزعم أحد أن تطبيقَه لا يخضع للنقد، فالقطعيّ دلالة مفهوم، أما مصداقُه - أي تطبيقه على يد البشر – فقد يخطئ البشر فيه ويصيبون.
ولقد ذكر الله في كتابه أنه يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، وقد ذكر القرآن على لسان أحد أنبياء بني إسرائيل: {إن الله قد بعث لكم طالوت ملكًا، قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه} إلى آخر الآيات. وذكر الله في السياق ذاته عن داود عليه السلام أن الله {آتاه الملك}. وقد شكر النبي الكريم يوسف عليه السلام اللهَ تعالى فقال: {رب قد آتيتني من الملك}، ودعا سليمان عليه السلام فقال: {هب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي}. وقد ذكر القرآن أيضًا ملوكًا جبارين منهم من ادعى الألوهية كفرعون، وذاك الذي حاجّ إبراهيم في ربه {أن آتاه الله الملك}.
والمقصد من سوقي لهذه النصوص السالفة أن أبيّن أن القرآن لم يذكر المُلك – بما هو ملك – في سياق الذم، وإنما المذموم هو الظلم، والعسف، وأكل أموال الناس بالباطل.. إلى آخر المحرّمات المعلومة في العقل والشرع.
واجتهد الصحابة في زمانهم بما وسعهم الجهد، وبما كان خاضعًا لسياق الوقت، وبما لديهم من إمكانات، وكانت تجربة تاريخية، فيها تطوّر في طريقة تولّي الأمر وإدارته. وليس في كل تلك الأمور الاجتهادية نصوص قطعيّة تزيل اللبس، إلا ما يتفق عليه المسلمون من الأمر بالعدل، والنهي عن الظلم، وما سوى هذا من النصوص التي لا يشكّ فيها مؤمن. غير أن شكل الدولة، وطريقة إدارتها، ونظامها من المسائل الاجتهادية، المتروكة للناس واجتهاداتهم في زمانهم ومكانهم.
أما ادّعاء أن «الخلافة» واجب شرعيّ، وأن تحقيقه واجب شرعي؛ فهذا ما يحتاج من مدّعيه إلى سوق الأدلة «القطعية» التي لا يختلف فيها اثنان. مع تأكيدي أن حديث «تكون فيكم النبوة ما شاء الله أن تكون.. إلخ»، حديث نبوءة، يخبر عن أمر قدري، لا عن تكليف شرعي، أما التكليف الشرعي بإقامة نظام اسمه «خلافة»، فلا بد له من أدلة مستقلّة تفيد هذا التكليف. والله تعالى أعلم.