مرثية «يا سعد» للشاعر «خالد الفيصل» صرخة موجوعة في فضاء الروح، ورجفة راعشة تجوس في أوردة الغياب والفقد، وتنهيدة عصية تسربلت بالضنى والصبر والحزن النبيل.
«يا سعد» بوح يأوي إلى ظله المتعبون، فتفيق صباحاتهم، ويخضر موحش أيامهم، وتزهر أكمام أزاهيرهم، فقد تعودوا من شاعرهم وتجربته الغنية والمرهفة التي لا تضاهى، دعوته للحياة والأمل والبشارة وبشاشة الفجر الفتي، ورفضه للانكسار واليأس والخذلان وأغلال الوهن، «جدد العهد واجعل كل صبح جديد.. فيه للحب لفته وابتسامه ونور».
مرثية «يا سعد» انعطافة مضاعفة وجياشة، فضت مغاليق الحنين ومكابدة الرحيل المر في شرايين الأرض وفجاج الريح، «يارفيق العمر يا خوي وعضيدي.. ألتفت أدورك منا ومنا». تنهال الأبيات طرية خصبة طافحة بالشجن، والدلالات الوجدانية والنفسية، والانغمار في التوصيف الممض والمعاناة الإنسانية شديدة الضراوة والتباريح، التي عانى منها الراحل الكبير: «تبتسم وعروق قلبك ما تحمل.. سدها كف من همومك تحنا» لغة مترعة بالتهجد، مغدقة بتجليات الراحل وطهارته وعفته وزهده في المنصب والمال والافتتان بهما «من زهد بالمنصب وبالمال قبلك.. بعتها واقفيت بالعزة تغنى»، تحررت الأبيات من نبرة التفجع المثخن، الذي يتلبس الشعراء في مثل هذه المواقف، والانهدام المهيمن على نسيج مشاهدهم الجنائزية، ولكن «يا سعد» بقيت رغم حرقتها ولذعتها صامدة ضد النواح السلبي، ونهش الذات المقهورة والمهزومة، بل بقيت روضة من رياض الزهو والعزة والسمو «ذا مكان اللي يشوم بعز نفسه.. منزله على الكواكب ما تدنا» دفق حار مشرق مدهش، يستمد ثراءه وعنفوانه من ذات المبدع، الذي لم يكف «خمسين» عاما عن جلب الأمل من بئر روحه، والاستجابة لنداء الحياة والإقبال عليها «يا ضايق الصدر بالله وسع الخاطر.. دنياك يا زين ما تستاهل الضيقه.. الله على ما يفرج كربتك قادر.. والله له الحكم في دبرة مخاليقه». عندما طفحت «دمعة الفيصل» الثاوية والدفينة، اهتزت مشاعر محبيه ولوعاتهم، حين ظنوا أن الدمعة نقيض للمهابة والصلابة والجدية، وتتجافى مع عظمة ذلك النيزك، والرمز المتعالي والباسق، فهو ممن توطنت نفوسهم على مجابهة الصعاب، وتعودت أقدارهم على حمل الأرزاء، لكن الدمعة من شيم الرجال، وأعظم مظاهر العاطفة الإنسانية وبواعثها، والباحث في شعر «الفيصل» يذهله تلك الحمولات المختزنة والمثقلة بنفائس العواطف، ومعجم الدمع المهتاج، وقبضة الحنين المستبد، «أثر المولع دمعته تجرح القاع.. والى ذكر ما فات هلت دموعه». اصطبغ طرح «الفيصل» من خلال تجاربه الكلية والعميقة «شعرا ونثرا» أو مشاريعه الناجزة على مستوى الوطن والعالم، بالقدرة على استقراء أعماق وذهنية النفس البشرية، ومكنونات الروح، والالتفات الحاذق إلى المقبل والقادم من نوافذ الأمل، وهديل الحلم المستفيق في الذاكرة والتاريخ، من خلال رؤية استبصارية غير متوهمة، وعبر لغة ثاقبة ومبصرة ونضاحة، وامتلاء فكري يقظ، يعنى بالجوهر وعمق الذات، حماية لوجودها الإنساني، واستغلال طاقاتها الكامنة، وممكناتها الحسية والمعرفية. استرعى انتباهي عند نشر «المرثية» أن أغلب الصحف كتبت كلمة «الأنس» هكذا، وبعضها «الإنس» وهناك فرق في المعنى بين اللفظتين.