بدايةً دعونا نؤكِّد أن إيران دولة جارة، وهذه حقيقة جغرافية لا يمكن تغييرها، فلا يمكننا اختيار جيراننا، ومِن ثَمَّ فإن التعايش معها مطلب، وربما ضرورة لا مناص منها، ولصالح شعوب المنطقة كافة، لكن كيف يحدث ذلك واقعيًّا وجميع تصرُّفات النظام الإيراني على جميع المستويات، السياسي والدبلوماسي والعسكري، تقود إلى عكس هذا المطلب تمامًا؟
خلال الأشهر الأربعة الماضية بدأ النظام الإيراني يرسل إشارات تتحدث عن ضرورة الوصول إلى تفاهم مع دول الجوار العربي، بخاصَّة دول الخليج العربية والسعودية على وجه التحديد، وهذه خطوة جيدة، شريطة أن تكون مقرونة بالأفعال التي تُثبِت حسن النية، وأن لا يكون ما يحدث مجرَّد مناورة واتباع لاستراتيجية الانحناء أمام العاصفة، بخاصة بعد انتخاب دونالد ترمب رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، وبداية تَفكُّك وانهيار اللوبي الإيراني في واشنطن، الذي كان آخر أحجاره السيدة سحر نوروز زاده التي استبعدها ترمب من منصب مستشارة الأمن القومي لشؤون إيران ودول الخليج العربي في البيت الأبيض، والتي نُقِلَت من منصبها بعد تقارير إعلامية فضحت دورها في الاتِّفاق النووي وعملها لخدمة النظام الإيراني في مكتب السياسات الخارجية بالبيت الأبيض!
كل الشواهد تؤكّد أن إيران لم تسعَ للتصالح مع دول الخليج العربي، خصوصًا السعودية، حينما بدأت طهران التأسيس لعلاقات جيِّدة مع واشنطن خلال فترة إدارة باراك أوباما، وعلى وجه الخصوص بعد البدء في المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني في إطار مجموعة 5+1، لأن النظام الإيراني كان يعتقد أن أيَّ توافق مع أميركا سيقود تلقائيًّا إلى مصالحة مع دول الخليج، وأن دول الخليج ستسعى للتصالح مع طهران. وبعد أن ثبت فشل هذا الاعتقاد، وفِي ظلّ عودة العلاقات بين واشنطن وطهران إلى المربع الأول، اتجهت طهران إلى الخطة «ب»، وهي تخفيف الضغوط الأميركية على إيران عبر البوابة الخليجية.
خلال الأشهر القليلة الماضية نشر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مقالًا في إحدى الصحف الخليجية، وكان يسعى للترويج لنظام بلده وضرورة التعايش. وقبل أيام نشر ظريف مجدَّدًا مقالًا آخَر في صحيفة أخرى، ولكن هذه المرة بدلًا من محاولات إذابة الجليد وإثبات حسن النية، أخذ يهمز ويلمز دول الخليج العربي ويتحدث بلغة استعلائية وفَجَّة، واتهامات مُبطَنة لدول خليجية بدعم الإرهاب. ووقعت الصحيفة «المبجَّلة» في فخّ القومية الفارسية، إذ وُصِفَ المسطَّح المائي بين العرب وإيران بـ«الخليج الفارسي». وإن كان ذلك يدخل في باب التصرُّف الدبلوماسي والمجاملة للوزير الإيراني، فإنه يُعَدّ إهانة للشعوب العربية، فلماذا تقبل الصحيفة بذلك؟
ولكي يكون حكمنا مُنصِفًا وغير انفعالي أو مَشُوبٍ بمشاعر قومية، دعونا نتساءل أولًا: هل تقبل أي صحيفة إيرانية، مهما كانت توجُّهاتها، أن تنشر مقاًلا لمسؤول خليجي؟ وإذا ما قبِلَت فهل ستجامل ذلك المسؤول وتنشر اسم «الخليج العربي» إذا ما استخدمه في مقالته؟
أكاد أجزم بأن إجابتك، عزيزي القارئ، ستكون بالنفي لكلا السؤالين، وهنا نتساءل: لماذا نضع أنفسنا إذًا في مثل هذه المواقف ونحن ندرك جيدًا كيف سيكون ردّ الجانب الإيراني سَلَفًا؟ دعوني أقول لكم إن العقلية الحاكمة في طهران ترى أن بعض دولنا لا تستطيع ردّ طلب إيراني كهذا، وهذه إشكالية متجذرة تحتاج إلى تحليل ومعالجة منفصلة عن الموضوع الذي نحن بصدده الآن.
ختامًا، نقول إن السعي للتصالح مع إيران يعبر من خلال إثبات حسن النية على الأرض، لا من خلال المراوغة والتضليل الإعلامي والوعود الضبابية، وإذا كانت لدى طهران رغبةٌ حقيقيةٌ، فهي تدرك جيِّدًا قبل غيرها ما عليها أن تقوم به، من خلال الأفعال على الأرض، لا المقالات والخطب الرنانة.