أكثر الأوقات التي يمكن أن تشعر فيها بصعوبة الموقف والمشهد، وحتى في مقدار وصفك لمشاعرك، حينما تجبر رغما عنك على تخيل بأنك تملك القدرة على تعيين مقدار العدالة، التي يمكن أن تقرر بها في حال وجود قضية إنسانية تطرح أمامك، ولكن أقسى من هذا كله، بل ويمكن أن تتجاوز أضعاف هذه المشاعر المترفة، حينما لا تملك أصلا حتى فرصة التفكير بأي قرار ولو كان وهميا، وأن أكثر ما يمكن أن تقدمه هو قليل من التأوه والحسرة وضرب رأسك بالحائط، أن الأوقات الصعبة الحقيقية التي عليك أن تشعر بالإثم نحوها، حينما تشعر بأن التخلف الفكري لا يزال قابعا في مجتمعاتنا العربية، وأن القيم الأخلاقية مثل الشرف والأمانة والإصلاح والصدق والعدل، تبدو أمام الكثيرين أنها مجرد مفردات هوائية مطاطة ولا يمكن أن تطبق.

لقد صودف أني قرأت خبرين منفصلين وعلى مدار يومين، أي أن الخبرين لا يفصل بينهما أكثر من 24 ساعة فقط، هذان الخبران جعلاني أشعر بأنني لا بد أني أعيش في عالم لا أريده، عالم لا يشبهني، ولا يمكن أن يكون قادرا على أن يجعلني في علاقة تمازجية بيني وبينه، تذكرت فورا خلاط السيدة سميرة، غفر الله لها، حينما كانت لا تتوقف أبدا عن العمل حتى الساعة السابعة مساء، ما زلت أتذكر نشاطها وحيويتها وصمتها الدائم، ولا تزال صورتها تروق لي حينما تبدأ في تقطيع الخضراوات، وترصهم بسرعة في الخلاط الكهربائي، كنت صغيرة وكانت ألوان الخضروات تلفت انتباهي، بينما أشاهد الجزر وقطع الطماطم وأوراق البقدونس وهي تتحول أمامي إلى عجين من دون توقف، كنت حينها أشعر بالدوار وبأن كل ما حولي لا يبدو مستقرا، وهذا بالضبط ما شعرت به وأنا أصفق للخبر الأول، وألطم من دون خجل للخبر التالي، أنني متأكدة أن هذا العالم لا يروق لي على الإطلاق، حتى حينما ينغمس الناس في البهجة والفرح، أشعر بالخوف عليهم من أن تقتلهم هذه السعادة التي تأتي أحيانا مصحوبة بالرعد والبرق.

الخبر الأول يتعلق بتبرع الطفلة مشاعل الرشيدان، وهي وحيدة والديها، بمبلغ 4810 ريالات لتفريج كربة وافد يمني، بعد أن بث حاجته عبر برنامج التواصل الاجتماعي «تويتر»، لتسديد فاتورة علاج ابنه الرضيع في مستشفى حائل العام، وكان والدا الطفل «عمر» قد عجزا عن تسديد 4810 ريالات، وهي القيمة العلاجية لخمسة أيام في المستشفى، وتفاعلت مشاعل «12 عاما»، حيث أصرت على والديها تسديد المبلغ من المصروف الذي ادخرته لنفسها شهريا على مدى سنوات، وتوجهت مع والديها إلى المستشفى وتم تسديد الفاتورة.

بالتأكيد شعرت بالفخر والسعادة، وربما تمنيت أن تكون لدي طفلة قلبها يشبه قلب الصغيرة مشاعل، وأنا متأكدة أن والديها يشعران بالفخر، لكون طفلتهما الوحيدة تتمتع بمثل هذا الحس الإنساني، وكما يبدو لي أن مشاعل ملتصقة بالمجتمع، وهي ليست بعيدة عنه، والدليل على ذلك قدرتها على التفاعل مع مشكلة الوافد اليمني.

أما الخبر الثاني الذي زلزلني، وشعرت حقا بأن العالم يعيش جوعا حقيقا نحو الأخلاق، فهو يتحدث عن قصة الخادمة الهندية «سلمى بيجوم» 39 عاما من حيدر أباد، حيث تعرضت للخداع من قبل وكيلي سفر محليين، بعدما تم تسفيرها للعمل في السعودية، وهي الآن تواجه مشكلات عدة، ولا تستطيع العودة إلى بلادها، وقالت الصحيفة إن «سلمى بيجوم» من بابانجير، سافرت إلى السعودية بمساعدة وكيلي سفر، أحدهما يدعى أكرم والآخر شافي، في يناير 2017 للعمل كخادمة، ونقلت «تايمز أوف إنديا» عن ابنة سلمى بيجوم «سمينا»، أن أمها تعرضت للغش من قبلهما، قائلة: «والدتي في مأزق في السعودية، وتريد العودة إلى ديارها، لكنه لم يسمح لها بالعودة إلى هنا، حتى إنني قابلت أكرم وطلبت منه أن تعود أمي، لكنه لم يفعل شيئا حتى الآن»، وأضافت: «ذهبنا إلى مركز الشرطة، ولكن يبدو أنهم غير متحمسين للقيام بالمسألة، ولم يتخذوا أي إجراء حتى الآن»، وقالت سامينا أيضا، إنها علمت أن والدتها تم بيعها إلى الكفيل، وتابعت: «بدأ الكفيل في تعذيبها عندما رفضت الزواج منه في السعودية»، مشيرة إلى أنها أبلغتها ذلك عبر رسالة نصية، بأنه قد تم بيعها من قبل الوكيلين، وبالتالي فإن الكفيل لا يريد إرسالها إلى الهند، على الرغم من العديد من الشكاوى والطلبات، وفي تطور لاحق، قالت تقارير هندية إن وزيرة الشؤون الخارجية سوشما سواراج، طالبت السفارة الهندية في الرياض بمتابعة حالة المرأة وإعادتها إلى الهند.

الأمر لن يكون بهذه الصعوبة فيما لو تحلى المواطن الكريم باحترام المرأة الهندية، وتنفيذ طلبها بالعودة إلى ديارها معززة مكرمة، ولكن للأسف الشديد، ما نراه الآن هو أقرب لأن يكون تجارة، يتم التنازل عن الخادمات بمنطق البيع والشراء، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد فقط، وإنما يتجاوز ذلك في عدم احترام الأيدي العاملة، وعدم تقديرهم بشكل إنساني، ويعود ذلك لعدم وجود وعي كافٍ، وعدم وجود ثقافة في كيفية التعامل مع الموظفين أو العاملين لدينا، على اعتبار أنهم أملاك تابعة لنا، يحق لنا التلاعب بمشاعرهم غير عابئين بأنهم يعانون من الوحدة والخوف، نتيجة عدم وجود لغة وثقافة مشتركة ومتشابهة، وللأسف إذا كنتم بحاجة ماسة إلى خادمات أو مساعدات في المنزل، فأرجو الإحسان لهن، ووضع قوانين صارمة لمن يسيء إلى أي عمالة وافدة من دون وجه حق.