مرة أخرى يعود الحديث بين النخب السعودية حول دور مؤسسات المجتمع المدني، حيث تزداد المطالبات بالتوسع في الترخيص لمؤسسات إضافية، وتنقسم الآراء ما بين مؤيد ومتحفظ، دون وجود معارضة حقيقية، وهو ما انعكس في بعض الحراك الثقافي والاجتماعي الذي شهدته وسائل الإعلام في الفترة الماضية. وقبل الخوض في التأييد والرفض، لا بد من التسليم بأننا مجتمع واعد ناهض، تنتظم مجتمعنا حركة تطور هائلة، فرضتها ظروف النهضة الاقتصادية التي نحظى بها، إضافة إلى ما أحدثته ثورة الاتصالات والعولمة من تغييرات فتحت نوافذ دول العالم على بعضها البعض، دون أن يكون هناك تعتيم أو انكفاء لدولة دون بقية العالم، ومع مراعاة ظروف كل دولة وما تمتاز به من صفات مجتمعية وثقافية ودينية، وما تختص به من تقاليد وعادات، إلا أن العالم بات يتشارك في عديد من القيم، ويتفق على كثير من الثوابت، ويتعايش في ظل مجموعة من القوانين الدولية التي تنظم حركته، مثل القوانين الإنسانية، وحقوق الإنسان، وحق السلم والصحة والتعليم وغيره، حتى مهام الحكومات وأهدافها تشعبت وتنوعت، ولم يعد بالإمكان لسلطة مركزية أن تستطيع الإشراف على كل نواحي الحياة، مهما تشعبت أجهزتها وتناسلت هيئاتها، وتضاعف عدد موظفيها ومنسوبيها، فالمجتمعات المدنية في أقصى وأصغر بقعة في أي دولة لم تعد مجرد مجتمعات ريفية تظل في انتظار الدعم من المركز، بل باتت لها احتياجات متجددة، فرضتها ظروف العصر الذي نعيشه، وأصبحت الحكومات بين خيارين لا ثالث لهما، إما أن تستمر في نفس نهج الحكم القديم، بالإشراف المباشر على كافة نواحي الحياة، مع ما يستلزمه ذلك من ترهل إداري ومضاعفة عدد الموظفين والعاملين لأضعاف كثيرة، في ظل الظروف الاقتصادية غير الخافية على أحد، والتي يمر بها العالم أجمع، أو السماح للمجتمع نفسه بالمشاركة في مهمة تنظيم شؤونه، عبر تشجيع القادرين من أفراده على ممارسة الأعمال التطوعية. 

ولا تخلو بلادنا بطبيعة الحال من بعض المنظمات المدنية، التي تعمل لصالح المجتمع وإفادته، لكنها للأسف محصورة في فئة المنظمات الخيرية والدعوية، ومؤخرا ظهرت بعض تجارب ناجحة لجمعيات مجتمعية، وهذه بدورها قامت بجهود مشكورة، ولعبت دورا كبيرا في إنجاز الأعمال الملقاة على عاتقها، ونظرة بسيطة إلى تلك الجمعيات تؤكد أن غالبيتها العظمى إن لم يكن كلها، تدور في فلك الصالح العام، وملتزمة بالتوجيهات والأسس المرعية، وتكاد تخلو من تجاوز الأهداف التي قامت لأجلها، وهذا عنصر إيجابي. وأبرزت تفاعل الإنسان السعودي مع العمل التطوعي، كما أن مؤسسات المجتمع المدني بمفهومها العام، وإن كانت تعمل بصورة مستقلة عن إشراف الدولة، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن تكتسب صفة التشاكس والتنازع، فلا تعارض بين الحكومات ومجتمعاتها، بل إن الأصل يؤكد أن هذه المجتمعات ينبغي أن تكون أساسا يدا مساعدة، تعمل إلى جانب الدول والأنظمة.

كما أن هناك فئة متوجسة داخل مجتمعنا تدعو للتريث قبل التوسع في الترخيص لمنظمات المجتمع المدني، وهذه الفئة لها اعتبارات ربما تكون منطقية، ودافعها في ذلك الحرص على المصلحة العامة، وعدم القيام بخطوة قد تنتج عنها تداعيات سالبة، ومع احترامنا لكل تلك الآراء، إلا أن مصيرنا لا ينبغي أن يرتبط بالهواجس، وحركة تقدم المجتمع هي شأن أكثر أهمية من إبقائه حبيسا لمخاوف غير مؤكدة، تكبل حركتنا وتشل قدرة أبناء المجتمع على الإسهام في تطور بلادهم ورقيها بين الأمم.

كما ينبغي مراعاة أن هناك قوانين تنظم حركة عمل تلك المنظمات المجتمعية، ولا يترك لها الحبل على الغارب، وإلا انقلب الأمر إلى فوضى، فالأدوار لا بد أن ترسم بدقة، والمهام ينبغي أن تحدد بوضوح، والآليات معروفة، وأي تجاوز أو انحراف عن الهدف المحدد سيقابل بالتأكيد بالحسم الكافي. فقضية توظيف الطاقات الشابة لصالح مجتمعي صرف باتت أمرا ملحا عوضا عن تركها عرضة لتصيد المتربصين سوءا بهذا الوطن،  ولا بد من إيلاء أهمية أكثر لقضية تمويل تلك المنظمات، وكذلك أوجه الصرف، بالشفافية التي تضمن عدم استغلال تلك المنابر للحصول على تمويلات مشبوهة، فإضافة إلى قضية الإرهاب التي باتت الشغل الشاغل للعالم اليوم، وشبكات تمويله المعقدة التي تنتشر في كافة الدول، فإن هناك نوعا آخر من المخاطر لا يقل أهمية عن الإرهاب، وربما يفوقه شرا، وهو الجهات المتربصة والدوائر المشبوهة التي تريد إحداث هزة في المجتمعات المستهدفة، ولا مجال لإحداث تلك الهزة إلا عبر المنظمات المدنية، خصوصا عبر نافذة التمويل واستمالة بعض القائمين على العمل المجتمعي، حسب ما نرى في بعض الدول، ولكن لا ينبغي التهويل من تلك المخاوف لأنه يمكن وضع القوانين الكفيلة بمنعها. لدينا والحمد لله منظومة من القوانين الكفيلة بوضع إطار صحيح لعمل تلك المنظمات، وهي قادرة على معالجة أي تفلت قد يحدث.

مجتمعنا السعودي هو مجتمع شاب، بحسب الإحصاءات التي تقول إن غالبية السعوديين هم من فئة الشباب التي تقل أعمار أفرادها عن 25 سنة، وهذا كنز سيحقق العديد من الفوائد لهذه البلاد، إن أحسنا استخدامه بالصورة المطلوبة، فهذه الطاقة الجبارة يمكن أن تحدث مكاسب عديدة، بعد توجيهها في المسار الصحيح. وهذا يصب في اتجاه تكوين قيادات شابة يمكنها أن تلعب مستقبلا دورا كبيرا في تطور البلاد ونمائها. وقد أحسنت الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربي صنعا عندما عقدت هذا الأسبوع ورشة عمل حول تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني وعلاقتها مع المؤسسات الحكومية ذات العلاقة بحقوق الإنسان وقد كانت فرصة سانحة للاستماع لكل الآراء من جميع أطراف العملية في دول المجلس ومثل هذه المناشط سيكون لها الأثر الإيجابي على الأدوار والرؤية المستقبلية لمؤسسات المجتمع المدني في دول المجلس..

في الختام لا بد من مراعاة حركة تطور المجتمعات التي من حولنا، وإدراك أننا لا نعيش في عالم منفصل، بل نحن جزء من كل، فإذا أردنا أن نكون جزءا مؤثرا فعلينا النظر إلى من حولنا، وأن نأخذ منهم ما نحن بحاجة إليه، وما يتوافق مع رغباتنا واحتياجاتنا، ولا يتصادم مع قيمنا، وأن نضفي عليه صبغتنا ونضيف إليه بصمتنا، أما إذا تمسك البعض بالانعزال، واستجابوا لدعوات الانكفاء، فلن نحقق شيئا، وقد أعجبني وصف أحدهم للعولمة والنظام العالمي الجديد بأنه مثل قطار يسير بسرعة، فإما أن نلحق به وننضم إلى راكبيه، نعرض عليهم بضاعتنا ونشرح لهم آراءنا، وإما أن نحاول الوقوف أمامه، فيدهسنا.