كانت أبها محطا لأنظار مئات الآلاف خلال الأيام الماضية أثناء حفل تدشينها عاصمة للسياحة العربية للعام الجاري وما رافق ذلك من فعاليات مصاحبة، كان أبرزها الحفل الغنائي الذي أحياه الفنان عبادي الجوهر مساء حفل التدشين، والمهرجان الذي أقيم على مدى أربعة أيام في قرية المفتاحة السياحية وسط مدينة أبها. انتشر عقب نهاية حفل الافتتاح وبشكل واسع مشاهد لعمليات تخريب وفوضى قام بها بعض الأفراد غير المسؤولين والعابثون، وقد ظن كثير من غير الساكنين في مدينة أبها أو الذين كانوا بعيدا عن حفل الافتتاح أن هذا التصرف يشكل سلوكا دائما لشباب أبها، وأنها صورة نمطية عنهم يعيشون فيها بين الفوضى وعدم التهذيب وانعدام المسؤولية. حتى وجد المعارضون لإقامة مثل هذا الاحتفال، سواء لاختيار المدينة كعاصمة عربية للسياحة، أو في إعادة الحفلات الموسيقية والغنائية إليها، وجدوا في مثل هذه التصرفات الشاذة مبررا لاعتراضهم الدائم، زادوا عليه المتاجرة بقضية شهداء الوطن من المرابطين، وربما كانت مثل هذه الاعتراضات التي سبقت الاحتفال دافعا لفوضى تلك الفئة من الشباب تلك الليلة، فالعابث يبحث عن أي مبرر يدفعه لتصرفاته ويزينه له، خاصة إن كان مرتديا أسمال الاعتراض والإنكار والوصاية الدينية التي اعتدنا عليها مع كل خطوة إيجابية في الوطن.
ما لا يعرفه الكثير أن الحفل سبقه ترتيب وتنظيم استغرق عدة أسابيع، ولست معنية هنا بالإشادة بأحد أو مديح أي عمل أنجز لصالح هذه المدينة، ولكن يعنيني أن أنقل بعض الصور التي توضح الوجه الآخر لفتيات وشباب أبها الذي شارك كثير منهم في عملية التنظيم والإعداد والمشاركة متطوعين؛ دافعهم حب العمل وحب المكان والحرص على تقديم ما يعكس صورة تتناسب وجمال أبها الذي ينعكس على أرواحهم المتوثبة للجمال والتميز، وينهض بها كجزء أثير من وطن يقوم على سواعد مثل هؤلاء الفتيات والشباب المعطاء. تلك الثلة التي أثارت الفوضى ليست أكثرية غالبة على المجتمع الأبهوي، ولكنها ظاهرة بدأت بالظهور منذ فترة ليست قليلة، وكانت تتعمد التجمع والتجمهر بالسيارات في بعض المواقع في أيام محددة يتفق عليها مسبقا، ويسميهم البعض «بالدرباوية» أو غيرها. وهم في الأغلب يأتون من خارج المدينة بسيارات مخالفة وسلوكيات شاذة، وتقوم القوات الأمنية في الأشهر الأخيرة بمداهمة مثل هذه التجمعات وإيقاف المتجمهرين واحتجاز سياراتهم.
ظاهرة «الدرباوية» أو إثارة الفوضى والعبث بالممتلكات العامة وإيذاء الآخرين علنا في تجمعات شبابية لا يمكن حلها أمنيا فقط، بل على المختصين من التربويين وغيرهم رصد أسباب هذا الانفلات السلوكي والأخلاقي، وطرح الحلول وطرق المعالجة التي تتجاوز الإيقاف الأمني بالمساهمة في أعمال خدمية اجتماعية للمدينة ومرفقاتها.
عودة للوجه الآخر من فتيات وشباب أبها، الوجه الناصع الذي يعمل دون ضجيج ولم يتصدر الأخبار في التداول ولا التصوير ومحاولات الإظهار والتشهير من الأعين التي اعتادت النظر فقط لمواضع الخلل والسوء دون الالتفات لمنابع الجمال والإبداع. ففي مهرجان حكايا مسك الذي تشرف عليه مؤسسة الأمير محمد بن سلمان الخيرية الذي أقيم في قرية المفتاحة بالتزامن مع إعلان أبها عاصمة للسياحة العربية، كان الفتيات والشباب من مبدعي منطقة عسير يعملون كخلية نـحل منسجمة لا تنتج إلا شهدا، ولا تحرص إلا على التميز فيما يقدم وما سيشاهده الزائر والمشارك من خارج المنطقة وداخلها. كان الجميع يعمل جنبا إلى جنب دون عقد الخوف من الآخر أو القلق من الخلل، لأن روح المسؤولية هي من تدفعهم للإنجاز دون تقصير. يؤمنون بأفكارهم وبحقهم في الحلم بمستقبل يليق بطموحهم كإيمانهم بمدينتهم التي ربتهم على العطاء كمطرها الدائم، وعودت أعينهم على الجمال كتقلب فصولها. هؤلاء الفتيات والشباب الذين كانوا أيقونة المكان في تلك الأيام هم من غير ملامح المفتاحة الشاحبة منذ سنوات، والذين جعلوا أصوات الحياة تدب في أزقتها وحجراتها بعدما كادت تكون نسيا منسيا أو تصبح كخيال مآتة للذكرى والجهود الخجولة. كانت رعاية «مسك» للمهرجان تؤكد أنه متى ما كان هناك فكرة يؤمن بها صاحبها وشغف يتبعه قلبه، فحتما ستنساق معه الظروف والمعطيات والإمكانات. ومع ذلك الشغف اكتشفنا أن المجتمع الذي كان الكل يلقي عليه اللوم في احتضار الفنون لدينا ويجعله سببا لأسباب يريدها الآخرون ممن حفظنا أسطوانات رفضهم للتغيير والتجديد ولهاثهم خلف التنميط والتقييد؛ جاء متلهفا للبحث عن الجديد، منغمسا في الاغتراف من معين الفنون المعروضة كبارا وصغارا، نساء ورجالا، فأدركنا مع كل ذلك الإقبال والتفاعل أن تجاوز الوهم مقدور عليه بخطوة واحدة صادقة وجريئة، وأن الآخرين لن يكتشفوا ما لدى هؤلاء الفتية من إبداع وتميز وقدرة على بناء الوطن بطريقة عصرية ومشرفة وخلاقة فقط إذا ما منحوا الفرصة والتمكين ودقة التنظيم. يستحق هؤلاء الطموحون وغيرهم ممن لم يتمكن من المشاركة في تلك الفعالية، أن تصبح المفتاحة مركزا ثقافيا متكاملا يضم مواقع دائمة لمنجزاتهم وأفكارهم، وألا يقتصر المكان فقط على الأعمال التشكيلية والفوتوجرافية، بل يتضمن معامل وورشا دائمة للمجالات الإبداعية الأخرى التي لاقت إقبالا كبيرا من المرتادين كما تضم مقارا للفرق التطوعية ذات الأفكار والقيم المميزة.