توفّي والدي قبل أسبوع، بعد معاناة مرض شديدة، لا تهدأ آلامها ليل نهار. ولقد قضيت الشهر الأخير في حياته ملازمًا له حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في غرفة العناية المركّزة، ولقد رأيته يذوي شيئًا فشيئًا، حتى اشتد ضعفه، فلم يعد يستطيع حتى أن يحرّك يده أو رجله إلا أن يطلب منا ذلك فنفعل ما يريد.
لا أعرف والدي – رحمه الله – إلا شديدًا نشيطًا متحركًا، لا يعرف الكسل ولا الملل ولا الخمول. منذ وعيت هذه الدنيا، يستيقظ قبل أن تستيقظ العصافير، ثم يضرب في الأرض سعيًا وعملًا، في عنفوان وحب للحياة، صاخب الضحكة إذا ضحك، شديد الأسر إذا غضب، مهيبًا لا نملك في حضرته أن ننبس ببنت شفة، يلتزم جميعنا الصمت إذا عاد إلى البيت ليستريح، ويا ويل من صرخ أو أصدر إزعاجًا أو أقلق سكونَه.
ثم ها هو ذا الآن في مرض شديد، قد ضعفت قوته، وأضحى جلدًا على عظم، وعلى محيّاه علامات الهرَم والمرض، حتى إني لم أصدّق ما رأيته حين رأيته على فراش المرض بعد أن سافرتُ إليه. ليست الدنيا ثابتةً لأحد، فقد يصحّ السقيم، ويسقم الصحيح، ويغتني الفقير، ويفتقر الغنيّ، ومن تفطّن استزاد ليوم الرحيل، ولذلك ورد في الحديث الشهير «اغتنم خمسًا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك».
قرّر الأطباء إدخاله إلى غرفة العناية المركّزة بعد أن حاولوا إجراء عمليّته مرارًا، فعاقهم عن ذلك ضعفه عن أن يتحمّل التخدير، سألت الأطباء: ما الأمر أخبروني؟ أهناك حل لهذه الآلام التي لا تطاق؟ قالوا لي: كل الحلول مآلاتها إلى الوفاة، فالعملية المقررة خطرة عليه جدًا وإن نجحت، وبقاؤه هكذا أيضًا نهايته الوفاة. كل ما نملكه أن نريحه في العناية المركزة، حتى يقضي الله فيه برحمته. كان الموت إذًا هو المنتظَر الوحيد، ولم يكن أمامنا إلا الانتظار (كلا إذا بلغت التراقي، وقيل من راق، وظن أنه الفراق، والتفت الساق بالساق، إلى ربك يومئذ المساق).
نعم، ظن أنه الفراق، فلقد كان والدي يردد أن مرضه هذا هو «مشروع الموت»، كان ينظر إلينا مودعًا، يسأل عن الجميع ليحضر إليه، وبعد يومين فقط في العناية المركزة، فاضت روحه، ورحلت الآلام، ورحل هو ليكون بين يدي أرحم الراحمين، الأرحم به من كل أحد. وقيل لي: أعظم الله أجرك، البقاء لله.
لقد عزيت كثيرين على فقد أحبائهم في حياتي، وشهدت الجنازات وشيعتها، وواسيت الأصدقاء والأحباب على فقد ذويهم، وقلت مرارًا وتكرارًا لهم: أعظم الله أجركم، وأحسن عزاءكم، البقاء لله. غير أن هناك فرقًا بين أن تقول مثل هذه العبارات، وبين أن تقال لك. كان وقعها عليّ ذا طعم خاص لا أدري كيف أصفه. نعم، البقاء لله (كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه.
يبقى الموت صدمةً، حتى إن كان متوقعًا منتظَرًا، نظرتُ إلى والدي في جناح الطب الشرعي مسجّى بالبياض لا حراك فيه، سكن فيه كل شيء، لا فرق بينه وبين النائم، حتى إني لظننتُ أني يمكنني إيقاظه، غير أن حقيقة الفناء كانت أقوى من كل ظنوني، إنها النومة الكبرى، حيث لا يكون الاستيقاظ إلا يوم البعث والنشور.
مرّ بين عينيّ شريط حياتي بلمح البصر، كيف ذهب والدي هكذا؟ كيف جرى كل هذا؟ وكان أشدّ ما شعرتُ به أن فاتني أن أبرّه أشدّ ما يكون البرّ، وتحسّرت، وندمت على كل فرصة كانت لديّ لأبرّه رحمه الله، وندمت على كل شيء كان في قدرتي أن أسرّه به ولم أفعل. وهكذا، فقدت – بالفعل – بابًا من أبواب مرضاة الله تعالى.
مرّ كل شيء كأنه رؤيا منام؛ أجواء المستشفى القاتمة، آهات المرضى ومناظرهم التي تبعث الألم في النفس، ثم منظر والدي متألمًا متأوهًا، ثم مرآه ساكنًا ميتًا، ثم حمل نعشه ووضعه في لحده وحثو التراب عليه، ثم تلقّي العزاء من الناس.
مرّ هذا كله كالحلُم، ولم أزل تحت وقع الصدمة حتى لحظة كتابتي هذه الكلمات، كأن شيئًا سُلِب من بين يديّ، ولا يزال هناك أمل أن يعود مرة أخرى.
أدري يا عزيزي القارئ أن وفاة والدي أو أي وفاة على هذا الكوكب أمر عاديّ لا يعني كل أحد، وأدري أن هذه سنة الحياة وشأنها، وأدري أنك ربما تكون قد فقدت حبيبًا من أحبابك يومًا ولم أقدّم لك شيئًا لا تعلمه، وأدري أنها مقالة «ذاتية» تصف المشاعر والأحاسيس؛ غير أنها فرصة لي لأقول للقراء الكرام: إن فقدت يا أخي بابًا من أبواب مرضاة الله فتنبه إلى الباب الثاني، واغتنم فيه ما فاتك قبل أن تمتدّ إليه هو الآخر يد الموت فتخطفه من بين يديك.
إن بر الوالدين عبادة عظيمة، ربما يذوق المرء مرارة فقدها حين تتخطفها أحداث الزمان، فاغتنموا فاكهة حياتكم؛ آباءكم وأمهاتكم بالبرّ والمعروف، قبل أن يأتي وقت تتمنّون فيه لحظة تحسنون إليهم فيها، حين لا يمكن أن تتحقق.
رحم الله والدي، وحفظ والدتي. ورحم أموات المسلمين، وحفظ الله لكم آباءكم وأمهاتكم، وأعانكم على برهم.