لا يهدأ المجتمع السعودي من حالة الجدل حتى فيما يحب من قضايا، لأنها قضايا بطبيعتها مازالت تدور في إطار ما هو مقبول وما هو مرفوض، ما هو ضروري وما هو كمال، ما هو معيشي وما هو ترفيهي، ما هو حق إنساني وما هو قابل للاختلاف والرأي، ويبدو أننا كسعوديين مازلنا ندور في حلقات مفهوم حق الناس في قرار حياتهم إلى جعل حياتك مجرد رأي مستلب للآخرين.
طرأت عليّ هذه الأفكار في الأسبوع الماضي حين كان الجدل يدور حول مدى أهمية حضور الأوركسترا في الرياض في الأسبوع الثقافي الياباني الذي عُقِد في مركز الملك فهد الثقافي، وطبعا فإن أعدادا غفيرة من الناس حضروا الأوركسترا، لكن البعض لم تعجبه هذه الحالة، فانقسم المجتمع إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول من المجتمع رفض هذا الوضع جملة وتفصيلا، بمعنى أنه مهما كان يحاول العودة بالمجتمع إلى ما كان عليه الوضع من قبل من ناحية الانغلاق على الذات، ورفض كل ما هو جديد، وهذا بالطبع تيار ممتد وعريض وموجود في كل القضايا التي تُشكل المجتمع أو يتحرك من أجلها ويمارس حقه الفكري في الجدل حولها والتعبير، وهو تيار يمكن التوقع منه هذه الحالة ولا جديد في ذلك، فذهنية التحريم أو المنع أو مصادرة حق الناس في المتعة والفنون. هذا التيار يرى أن المجتمع لا يرغب في كل ما يحصل، لكنه مخدوع ببعض الليبراليين الذي يجرون الناس إلى الانحلال الأخلاقي.
القسم الثاني يقابل القسم الأول في مدى دعمه اللامحدود لكل ما هو جديد، ويعتبر أن هذا المجتمع يبحث عن أي فرصة للانفتاح والفنون، ويعتبر أنها مصدر الحياة، ولذلك يعتبر أن الجموع الغفيرة التي حضرت هي التعبير الأمثل للمجتمع السعودي. يدافع هذا القسم عن أي عمل حتى لو كان خاطئا (تنظيم الحفل السيئ مثلا)، وهذا التيار بالطبع يرى أن المشكلة كل المشكلة في التيار الأول الذي يقف ضد كل ما هو جديد، ويعتبره المعرقل للتنمية في المجتمع، ويتجاهل أن عدداً عريضا من المجتمع قد لا يتوافق مع رؤاه وتوجهاته.
القسم الثالث يحاول الوقوف بين القسمين الأولين، ويريد أن يضع نفسه بشكل حيادي، فلا يريد أن يكون من التيار المحافظ في رفضه للفنون، ولا يريد أن يكون مع التيار المنفتح في قبوله للفنون، ليطرح فكرة الضروري في مقابل الهامشي، والأصل مقابل الفرع، وتحقيق الضروري قبل الكمالي. يجادل هذا التيار عن سؤال: ما هو المهم وما هو الأهم! ويرى أهمية الأهم قبل المهم. هو يرى أن الفن مهم لكن الأهم منه العلم. في حفل الأوركسترا ظهرت فكرة لدى بعض الأوساط (التويترية) أنه كان من المهم جلب العقل الياباني في علومه وتكنولوجيته لا جلب فنونه وأوكستراه. وحول هذه الفكرة سيكون المقال.
من الواضح تماما أن هناك إشكالية مع الفن في هذه الذهنية التي تقدم العلوم والعقل والتكنولوجيا على الفنون. الرفض الذي قابله هؤلاء لحفل الأوركسترا اليابانية لم يكن رفضاً مباشراً كما في التيار الأول، ولكن يبدو أن هناك نوعا من الالتفاف على الأمور، بحيث يتم الحديث عن العقل والعلم في مقابل الفن وكأنهما منفصلان. هذه الذهنية مازالت تسيطر عليه دونية الفنون، وأن التقدم العلمي هو التقدم الذي يمكن أن ينقل المجتمعات من حالة التخلف إلى الحالة المتقدمة، وفي هذا نوع من تجاهل أهمية الفنون للإنسان وللحضارة والثقافة تماما كما هي أهمية العلوم والنظريات العلمية وتطبيقاتها، بل يمكن أن تخفف العلوم من الصرامة العلمية، فإذا كانت الحالة العلمية والعقلية مهمة فكذلك الحالة الجمالية والفنية، وإذا كانت العلوم خاصة في الدوائر العلمية فإن الفنون للناس كل الناس بلا استثناء، وهنا تكمن أهمية الفن بحيث تنتقل من الحالة الكمالية إلى الحالة الضرورية.
هذا الرفض المبطن للفنون يشي برؤية دونية للفن، والنظر إلى المجتمع الياباني بوصفه مجتمعا علميا ليس إلا نظرة بعين واحدة كما أنها مجرد قراءة من القراءات للمجتمع الياباني، فاليابانيون لديهم ثقافة وفنون وعلوم وتكنولوجيا وتاريخ وتقاليد وأديان وغيرها، واختصارهم في الجانب العقلي والعلمي أو التكنولوجي هو حصر لثقافة اليابانيين ككل، وإذا كان اليابانيون فضلوا أن يكون افتتاح أسبوعهم الثقافي بالأوركسترا فلأنهم يقدرون الفن كما يقدرون العلم على حد سواء، وليقولوا لنا إنهم مجتمع مفتوح على كل الثقافات، وليقولوا إن لديهم ثقافة غير ما هو التصور العام عنهم.
كل قراءة للمجتمع الياباني من زاوية واحدة هي قراءة قاصرة بالضرورة، فالنهضة الثقافية والعلمية تستلزم معها النهضة الفنية وتغيرا في السلوكيات العامة للناس، وكل مجتمع له أسلوبه الخاص في طريقة عيشه وثقافته، ومن الخطأ وضع تصوراتنا الخاصة بكل مشاكلنا وإسقاطها على الآخرين.
الذهنية التي ترفض الأوركسترا اليابانية بأهمية جلب العلوم وليس الفنون هي ذهنية متأثرة بمقولات الصحوة القديمة التي كانت تردد أهمية جلب العلوم التطبيقية دون الثقافة، وكما هي أيضا التصورات القومية العروبية السابقة التي كانت تؤكد على حضور العلم دون حضور الثقافة والاعتزاز بالقومية العربية، ولم نستطع وقتها لا جلب العلوم ولا جلب الفنون، وفي حالة جلب الفن الياباني إلى السعودية فهو من باب جلب الثقافة التي هي جزء من الحضارة، وإذا تعذر جلب العقل والتكنولوجيا فلماذا يجب أن يتعذر جلب الفنون؟! فإذا لم نستطع أن نجلب العلم فهل نرفض جلب الفنون؟ أعتقد أن هذا التصور ليس في محله.