رثاء الميت قد يرقق قلوب الناس ويجعلهم يقتدون بالميت ويسيرون على نهجه. فأخي الدكتور غازي عبيد مدني (يرحمه الله) قد رحل إلى الخلد، ولكن ترك أعماله المخلصة كإنسان. ما أصعب لحظات الوداع وما أقساها، خاصة لإنسان تحبه، فكيف إن كان هذا الإنسان قد منحك من وقته وجهده وعلمه وتجاربه وخبراته الكثير فـي سبيل تعليم وتنوير وتثقيف ابنتك، وتحطيم أسوار الجهل وجدران الأمية، وتمهيد الطريق لها لتنطلق بكل عزم وثقة وإصرار وتسلحت بسلاح المعرفة والعلم النافع.
وهنا ومن خلال هذه العجالة أطمع أن أتطرق بشيء من الإيجاز لذلك المعلم المربي الذي عرفه حقل العلم والمعرفة عبر عقود من الزمن وعرفته أنا لفترة قصيرة، وإن كانت ذكرى الدكتور عظيمة وتحتاج إلى مساحة واسعة، ويستحق أن يثري به من هو أحق مني، وأعرف عني من ذلك الرجل الوفي، لكنني سوف أحاول أن أعرض نموذجا وموقفا من مواقف لنهج التواضع ابن عبيد في حياته المهنية، كما عرفته شخصيا منه (يرحمه الله). فليتذكروك ويقتدوا بك كافة تلاميذك وآباء تلاميذك ليخلصوا لوطنهم وأبنائها لمهنتهم.
تعرفت على الفقيد قبل حوالي 12 سنة عندما حصلت ابنتي الدكتورة رحاب على شهادة الثانوية العامة، وطلبت مني أن أساعدها في القبول في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة لدراسة بكالوريوس الخدمات الصحية. أخذت ملف ابنتي وذهبت للجامعة دون موعد ولا علم من هو مدير عام الجامعة، وصعدت إلى مكتب المدير وناولت السكرتير كرتي المهني وطلبت مقابلة المدير العام. ولم تمض دقائق وإذا مدير عام الجامعة يفتح باب مكتبه بنفسه ويرحب بي للدخول. هذه أول مقابلة قابلت فيها الدكتور غازي. وبعد تبادل السلام والشكر ناولته ملف ابنتي وبه خطاب مرفق مني أطلب فيه رغبة ابنتي. قرأ خطابي ورد بكلمات «أبشر يا دكتور». شكرته واستأذنت وخرجت عائدا لمنزلي. لم تمض على مقابلتي للدكتور غازي 24 ساعة ويرن هاتفي النقال من رقم مجهول. جاوبت وقلت من المتصل؟ كان الرد ليس من عميد القبول والتسجيل في الجامعة ولا من مدير مكتب عميد القبول والتسجيل ولا من مدير مكتب مدير عام الجامعة، بل كان الرد من المتصل: غازي عبيد مدني، يا دكتور عبدالعزيز. قبل أن ينطق بكلمة قلت له: دكتور غازي أشهد أن السيد عبيد مدني لم يمت، فمن خلف مثلك يظل حيا في قلوب أمة محمد، صلى الله عليه وسلم. رد وقال: دكتور هل نسيت من خلفك؟ قلت لا والله حي في قلبي. ثم ذكر لي أنه أمر بقبول ابنتي في الجامعة. بعد عدة سنوات تخرجت ابنتي من الجامعة وتزوجت ورافقت زوجها المبتعث من قبل وزارة الحرس الوطني لدراسة الماجستير والدكتوراه. انضمت ابنتي لبرنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث، وبدأت تحضر للماجستير في تخصص الخدمات الطبية وحصلت على درجة الماجستير مع مرتبة الشرف وبعثت لي الشهادة. أخذت الشهادة وبموعد مسبق ذهبت إلى مكتب رئيس مجلس إدارة مؤسسة المدينة للصحافة والنشر ودخلت على الرئيس وقدمت شهادة ابنتي هدية للرئيس كان آنذاك الدكتور غازي عبيد مدني. هكذا كان وسيظل رجل التواضع والوفاء والخير والعلم والتعلم، سيظل في أذهان أبناء جامعة الملك عبدالعزيز وأبناء الوطن وآباء هؤلاء الأبناء.