يرتبط التطرف والتكفير ببعضهما لدرجة التمازج، وكأن كلاً منهما يرتكز على الآخر ليسنده ويقويه؛ ولهذا لم تكتف "القاعدة" بتكفير الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي بل عملت على التخطيط لاغتيال قيادات سياسية وأمنية، وبالقدر نفسه تعمل-ضمن مشروعها التدميري- على الانتقام من المثقفين والإعلاميين الذين كشفوا تهاوي الخطاب المتطرف وبثوا الوعي في المجتمع بخطورة الإرهاب، من خلال (الكلمة) المكتوبة والمنطوقة، التي تسهم في إعادة تشكيل الرأي العام وتنويره.
وفي البيان الصادر مؤخراً عن وزارة الداخلية السعودية يتضح أن استهداف شخصيات إعلامية، إلى جانب شخصيات أخرى سياسية وأمنية، هو تأكيد لأهمية الخطاب الثقافي مقابل الخطاب المتطرف، حيث يتوجس معتنقو التطرف عموماً من خطاب الثقافة معتبرينه سعيا لهدم الدين، ومفهوم كلمة (الدين) هنا لا يعني سوى الأفكار والآراء التي يعتنقونها ويدعون إليها في أدبياتهم، محاولين فرضها على غيرهم للسيطرة على المجتمع والتحكم بخياراته وسد منافذ التطور أمامه، لأنهم العنصر المستفيد الأول من استمرار جهل المجتمع بذاته!
وما زال خطاب التطرف مستشرياً، لا يعتمد على صراحة النصّ بقدر اعتماده على التأويل، فيقود إلى وضع الرأي الآخر المختلف في زاوية ضيقة، تمهيداً لتجريد أصحابه من دينهم ووطنيتهم وذلك برسم دوائر شك وهمية حولهم، حتى وصل الأمر إلى التهديد والاغتيال دون أي وازع إنساني، إلى أن أصبحت الأوضاع الدينية والسياسة والإنسانية في كثير من الدول العربية والإسلامية كمرجل يغلي، تكمن خطورته في الشعوب تعيش حاضراً متزعزعاً يهدد وجودها المستقبلي.
والقائمة التي أعدتها "القاعدة" لاغتيال الإعلاميين إنما تثبت أن استهداف الإعلام للعقل المجتمعي بات يعطي نتائج أفضل من السابق، ونتذكر قبل عدة سنوات أن التعاطف مع "الإرهاب" والإرهابيين كان علنياً وواضحاً بين مختلف شرائح المجتمع، إلى أن بدأ بالتلاشي نوعاً ما بعد أن اتضحت الحقيقة التي كان للإعلام دور كبير في إبرازها، على الرغم من أننا نحتاج إلى وقت طويل لكي يحقق مجتمعنا توازنه، إذ من السهل القضاء على الإرهابيين كأشخاص لكن من الصعب القضاء على الفكر المتطرف الذي يحتضن الإرهاب، حيث لا يزال التشدد صفة كامنة في المجتمع وجدت أرضاً خصبة لتنمو بها شجرة الإرهاب الخبيثة، فأولئك الإرهابيون لم يهبطوا من السماء بل هم ممن نشأ وتربى معنا وبيننا في بيئة متدينة، لعبت فيها العاطفة الدينية دوراً كبيراً في انقسام المجتمع على نفسه وبالتالي تأثر تعامل أفراده بين بعضهم.
وعلى الرغم من أهمية إبراز سماحة الإسلام وسعة أفقه، فإن وجود رؤية واضحة لتجديد الخطاب الديني في المجتمعات الإسلامية يعتبر أمراً مهماً أيضاً، فكثير من التنظيرات الفكرية لم تجد تنفيذاً علمياً وعملياً، وبالتالي بقيت الثغرات مفتوحة أمام التطرف من خلال قيم المجتمع نفسها، ومن خلال المناهج الدراسية بمختلف مراحل التعليم، ومن خلال ضيق هوامش حرية التعبير، وغياب مؤسسات المجتمع المدني.
إن مكافحة الإرهاب تبدأ بمكافحة التطرف، ومكافحة التطرف تبدأ بالانفتاح على العالم، وهنا تبرز أهمية السعي لإفساح المجال للرؤى العقلانية في الإعلام، إذ لا يمكن لإنسان أن يرى حقيقة العالم عبر نافذة صغيرة، فالأجدر به أن يفتح الباب ليخرج ويكتشف الحياة في هذا العالم! ومن المهم في الوقت ذاته، إيجاد فرص للاختلاف باعتباره عامل ثراء لا نقص، غير أن الاختلاف يكون سلبياً وخطيراً حين يسعى طرف ما إلى الاستعداء والتكفير والتصفية الجسدية، وهنا يجب عدم التقليل من أمر القائمة الإعلامية التي نشرتها القاعدة، فالتنفيذ ليس بالضرورة أن يتم على مسلّح منتم لكتيبة اغتيال الإعلاميين في التنظيم، وإنما قد يتم الأمر عبر أدوات أخرى من داخل المجتمع؛ وخاصة أننا نرى أن التصعيد ضد الإعلاميين مستمر بشكل صريح منذ سنوات عبر منابر المجتمع، وها هو اليوم يتقاطع مع تهديدات "القاعدة" التي هي تهديدات لفاعلية الجهود الفكرية في مكافحة الإرهاب.. وخاصة أن الفكر المتطرف لن يقارع إلا بفكر مضاد.