نجادل في هذا الحديث بأن النهضة العربية، بخلاف ما حدث للأمم الأخرى، لم ترتبط بالصعود السياسي للحضارة العربية، وإنما أخذت مكانها بحق في ظل تداعي خط الصعود البياني واتجاهه نحو الأسفل. وهو ما يعني أن البنية الحضارية العربية قد أخذت مكانها بعيدا عن السلطان السياسي، وأنها كانت نتيجة تراكمات عزز منها ارتباط العرب في ظل الفتوح بأمم أخرى، وتفاعلهم الحي مع حضارات تلك الأمم.
اتجه العرب إلى التخوم الشمالية من الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام، ووصلوا في موجات متعاقبة إلى العراق وبلاد الشام ووادي النيل، قبل استهلال الفتح العربي.
وحين بدأ الفتح سهل ذلك الوجود على المسلمين وُلوج تلك الأقطار، وجعلها جزءا من الحواضر العربية.
وتؤكد قراءة التاريخ العربي أنه حين انطلقت جيوش المسلمين من مدينة يثرب إلى عموم مناطق الجزيرة العربية، كانت على علم بتضاريسها، ووديانها وجبالها، ومعرفة طرقها، حيث استخدم أهل مكة تلك المناطق وطرقها محطات وممرات لعبور قوافل تجارتهم، بل كانوا على معرفة دقيقة بقبائل الجزيرة وعشائرها ورموزها الاجتماعية.
وقد ساعدتهم تلك المعرفة على عقد التحالفات، وتوقيع معاهدات الصلح، وإقامة العلائق مع القبائل، مما سهل على الفاتحين تنفيذ مشروعهم. وإلا كيف نفسر تمكّن المسلمين، بقيادة خالد بن الوليد في عامين من عهد الخليفة أبو بكر الصديق، من توحيد عموم مناطق الجزيرة العربية، وهي فترة قياسية قصيرة، شهدت كرّا وفرّا ووقفات تعبوية، وانتقالا عبر الصحراء، في مواسم قاسية من منطقة إلى أخرى، من نجد إلى اليمن وعمان فالبحرين وشمال الجزيرة، إلى بلاد الشام والعراق.
ومن المؤكد أن تحقيق تلك الغزوات والحروب وتكللها بالانتصارات، في تلك الظروف، كان عملا أقرب إلى المستحيل، لو كانت هناك قطيعة في الزمان والمكان.
كما أكدت تجربة الفتوح العربية الفريدة عمق التواصل بين العرب، رغم تباعد المسافات، وقد صاحبها انتشار كبير للإسلام والعربية في سرعة غير مشهودة، حيث اعتنقت أمم كثيرة الإسلام، وقبلت أخرى بالعربية هوية وبالإسلام دينا ومحتوى ثقافيا.
ويوضح ذلك التواصل أسباب التماهي السريع والواسع مع عقيدة التوحيد، واستجابة الشعوب التي دخلت الإسلام حديثا للتفاعلات الفكرية والمذهبية والفقهية، وقبول العرب على اختلاف مناطق وجودهم، نتاج مدارس الكوفة والبصرة وبغداد والقيروان، وانتشار المذاهب الفقهية التي نشأت جميعا في العصر العباسي، وتمركزت في بغداد والحجاز، في أرجاء المدن العربية، لتنتقل فيما بعد إلى أرجاء الدولة العربية الإسلامية، حتى الأندلس.
وبالمثل، انتشرت بسرعة وبشكل أفقي وعريض، المذاهب الفكرية والفلسفية التي تكونت في ظل الحضارة العربية. وكانت تلك المذاهب التي تكونت في ظل الحضارة العربية في تعبيراتها، انعكاسا للصراعات السياسية والاجتماعية التي شهدتها دولة الخلافة في العصرين الأموي والعباسي، كالمرجئة والأشاعرة والمعتزلة والجبرية والقدرية، وقد وجدت من يتبناها ويدافع عنها على امتداد الساحة العربية والإسلامية.
وكان نتيجة ذلك الانتقال تراثا خالدا متنوعا مثل مختلف التيارات الفكرية على امتداد ساحة الخلافة. وصدر في مرحلة لاحقة كتاب تهافت الفلاسفة، لأبي حامد الغزالي، في بلاد فارس إلى الشرق، وردّ عليه أبو الوليد محمد بن رشد، المولود بقرطبة في الأندلس، أقصى ما وصلته حضارة العرب والمسلمين غربا. وكان أن صدر فيما بعد كتاب المقدمة لعبدالرحمن بن خلدون، من تونس بالمغرب الغربي، وتلك كانت قفزة نوعية في وضع اللبنات الأساسية لعلم الاجتماع.
وعلى الصعيد الأدبي، كان هناك تواصل عبّر عنه الشعر العربي، في حلقات مستمرة ومتصلة، منذ شعر المعلقات قبل الاسلام، إلى عمر بن ربيعة فجرير والفرزدق ودعبل الخزاعي وأبي نواس والبحتري وأبي تمام، إلى الأندلس حيث ابن زيدون وابن هاني، والموشحات الأندلسية.
وقد نقلنا ذلك الأدب الرفيع، بإيقاعات جميلة ونبض مثل التاريخ في حركته وتطوره، من الحجاز إلى الشام والعراق ومصر والأندلس.
وحين تدخلت العناصر غير العربية في سياسات الدولة وتعيين الحكام، ضعفت دولة الخلافة، وبرزت أكثر من خلافة في دار الإسلام، مما أدى إلى القضاء على الوحدة السياسية للدولة العربية الإسلامية.
ومع أن دولة الخلافة قد تفككت، وحلّت محلها إمارات وممالك حمدانية وسلجوقية ومملوكية، إلا أن فكرة أمة واحدة تربطها عقيدة، ظلت حلما يراود كثيرين من العرب، واستمرت الهوية العربية تحمل ثنائية ممزقة بين انتماء إلى كيان خاص وانتماء معنوي آخر إلى أمة تضم شعوبا وقبائل. ومع كل حالة ضعف يطغى الشعور بالانتماء إلى الأمة. لكن وحدة الأمة سياسيا بقيت بعيدة المنال، فقد كانت رهنا بقوة العرب، وتصميمهم، ولم يكن لدى العربي في واقع حالهم، قوة أو تصميم على تحقيق ذلك.
لكن الملاحظ، أن تجليات الثقافة العربية برزت بشكل مثير للإعجاب مع انهيار نظام الخلافة العربية، وهي حالة استثنائية، إذ المألوف أن يكون هناك توازٍ في الصعود والسقوط، بين خطي النهضة والسلطة. لكننا عربيا لا نلاحظ هذا التوازي، إذ في الوقت الذي ضعف السلطان السياسي، وتمزقت الخلافة العربية الإسلامية، وأخذ الخط البياني بالميل إلى الأسفل، نرى أن الخط البياني للنهضة الفكرية، ظل مستمرا في اتجاهه بالصعود، مبرزا أسماء لامعة في التاريخ العربي، كابن سيناء وابن ماجة والرازي والفارابي وابن الهيثم والإدريسي وابن خلدون والغزالي وابن النفيس وابن رشد، وكثير غيرهم.
وهذا يعني أن انهيار الدولة العربية الواحدة، لم يعبّر عنه بانقطاع ثقافي، وأن الثقافة العربية قد نمت بفعل مجموعة من التراكمات والتفاعلات التي منحتها القدرة على الاستمرارية في ظل ضعف السلطة السياسية.
لقد كانت تلك الثقافة تعبيرا عن وجدان أمة، ارتبطت بشحنات عاطفية وتراثية، استمد منها المجتمع العربي في بنيته التحتية ونخبه الفكرية، سياجا واقيا، لحماية هويته من التفتيت، وكي يضيف أفكارا حية جديدة في صرح النهضة العربية.