قبل أيام أثارت الكاتبة في صحيفة عكاظ: جهير المساعد في مقال صغير جدلاً ثقافياً حول مسألة صغيرة في شكلها لكن تنم عن إشكالية ثقافية كبرى وهي: "سؤال الهوية" ذلك السؤال الذي مازالت الإجابة عليه في طور التداول المعرفي والثقافي في أكثر المجتمعات لاسيما تلك التي خطت أو تحاول أن تخطو في طريق المدنية الحديثة. جاء مقال الكاتبة في البداية كتعليق على مقولة الأراضي الحجازية التي تنشر كعناوين صحفية في بعض الصحف العربية في وصف عودة الحجاج إلى أهاليهم؛ إذ يكون من اللازم ـ في رأيها ـ أن يحدد الإعلام الدولة بدلاً من الأراضي الحجازية بحيث يوصف الحجاج أنهم كانوا عائدين من السعودية، وليس من الأراضي الحجازية على اعتبار أن تخصيص الأراضي الحجازية لا يليق في ظل وجود دولة قائمة ومعروفة هي المملكة العربية السعودية.

الكاتبة جهير المساعد تعتبر أن مثل هذه العناوين الصحفية فيها تغليب الجزء على الكل، فالحجاز جزء من كيان أشمل. وفي ردها على الدكتور عبدالرحمن الخطيب الذي انتقدها في صحيفة الحياة من منظور إسلامي على مقالها ذلك، كانت تؤكد على تلك الفكرة، أي تغليب الجزئي: (الأراضي الحجازية) على الكلي: (السعودية)، ثم عادت الكاتبة مرة أخرى لتنفي عن ذاتها في مقال آخر الرؤية المناطقية حينما اتهمها بعض القراء أن ما قالته هو جزء من رؤية مناطقية تأصلت ضد أهل الحجاز، ومن هذه الزاوية ثار الجدل، إذ فهم البعض أن ذلك ليس إلا امتداداً للتعصب المناطقي الذي بدأ ينتشر بين المناطق المختلفة، أو بين القبائل داخل الجزيرة العربية من جهة أخرى أو حتى بين الطوائف والمذهبيات إذا ما رفعنا المسألة إلى سقف أعلى.

وبعيداً عن ذلك الجدل، أو قريباً منه لافرق، فإن المسألة تدور في مجال أوسع من ذلك المجال، إذ تظهر العديد من التصنيفات الثقافية بين حين وآخر سواء على المستوى الفكري أو الإعلامي أو الشعبي، والرؤية القبائلية أو المناطقية هي رؤية إشكالية تدور في خانة الضدية أحياناً من التكوينات الأخرى المختلفة عن الذات القبائلية أو المناطقية، وتظهر هذه الإشكالية في مدى تعمق الرؤى التصنيفية بين أبناء المناطق أو في الكتابات الصحفية أو غيرها، وجدل (الأراضي الحجازية) بدأ ينحو تصاعدياً إلى العلاقة بين التكوينات الثقافية ذاتها التي تنتجها المناطق، ومدى علاقة هذه بتلك أو مدى عمق الاتصال أو الانفصال الثقافيين.

شخصياً لا أعتقد أن كلمة من قبيل (الأراضي الحجازية) تثير كل تلك الحساسية لولا أن هناك إشكالية عامة بين الأطراف المختلفة في فهم علاقة الجزء بالكل أو العكس سواء ذكر الجزء على اعتباره الكل، أو ذكر الكل على اعتباره الجزء مادام لم يتم التفريق بينهما ذلك التفريق الواضح والضروري، فكما أن الكل هو الكيان الأكبر، فإن الجزء هو أحد مكونات ذلك الكيان نفسه، ومن هنا، فإن افتعال هذه الإشكالية هو افتعال يدور في إطار لا علاقة له بالرؤى الثقافية التي كان لابد من الاستناد عليها. الحجاز مكون من المكون الثقافي السعودي وذكر الحج مرتبطاً بالأراضي الحجازية هو ارتباط موضوعي كما هو ارتباط الحجاز الموضوعي بكيان الدولة السعودية في العصر الحديث، ومن هنا جاءت رعاية الدولة للأراضي الحجازية، ولا فصل بين هذا أو ذاك سواء ذكر الكل كتعبير عن الجزء، أو ذكر الجزء كتعبير عن الكل، وفي العربية دائما ما تم قبول تداخل مثل هذه التقسيمات بين بعضها البعض.

إن الإشكالية ـ في رأيي ـ تدور في إطار التداخل بين مجالين في التفكير لدى المثقفين أو الكتاب: المجال الوطني، والذي يعيد التفكير في الاختلافات لخلق وحدة وطنية متماسكة تضع في اعتبارها قيم المواطنة في المقام الأول، وتحاول التحرك في بلورة التكوينات الصغيرة في إطار واحد شامل وجامع تلغى معه تلك التكوينات من أجل تحقيق رؤية وطنية واحدة، والمجال الثاني هو: المجال الثقافي، والذي يعطي اعتبارية للتكوينات الثقافية بوصفها تكوينات ذات ثراء متنوع تسمح بالتجاور وإثراء التكوينات بعضها البعض.

وفي الحقيقة فإن في كل المجالين رؤية ذات بعد فكري معتبر، فالتكوينات الثقافية المختلفة سواء كانت مناطقية أو قبائلية أو فئوية أو مذهبية أو غيرها يمكن لها فيما لو طغت عن كونها تعبيرات عن الذات الثقافية فإنها سوف تصبح رؤية متعصبة للذات؛ إذ يحاول كل مكون هنا أن يطغى على المكونات الأخرى، وعلى هذا الأسس تبرز قيمة المواطنة كنوع من الضدية التي تقف في مواجهة موجات التعصب للذات لتعيدها إلى اتساقها الثقافي الطبيعي والمعقول. وفي المقابل، فإن المبالغة في إلغاء أو تجاهل أو تحقير تلك التكوينات من أجل قيمة الوطنية الواحدة هو نوع من رفض قابلية الاختلاف، والذي هو في الأساس رفض قيمة التعايش، فالتكوينات تتجاور فيما بينها لتخلق ثراءً ثقافياً يعزز من قيمة التكوين الأعلى، ويأتي دور الدولة في تحقيق ذلك التوازن بصفتها الحاضن الفعلي لتلك التكوينات.

وعوداً على قضية الأراضي الحجازية، فإن ذكر الحجاز وثقافته والاهتمام بها لايعني مطلقاً تعصباً مناطقياً، ذلك أن الحجاز مثله مثل عسير ونجد والأحساء ومناطق الشمال أو مناطق الجنوب وغيرها، ذات تكوين ثقافي معتبر يعزز من قيمة التكوين الثقافي الأشمل.

إن الضامن الوحيد هو أن تعبر كل تلك الثقافات عن ذاتها بوصفها الجزء الذي يمكن له أن يمثل الكل كما يسمح بتمثيل الجزء لآخر له في مواقف أخرى مع قابلية الاختلافات بينها، والتعايش مع هذه التكوينات يصبح مصدر ثراء حقيقيا للكيان العام الذي سمح بتلك التكوينات ووظفها التوظيف المثالي من غير أن يغلب مكون على مكون آخر.