تعد مسرحية «في انتظار غودو» للكاتب الأيرلندي صمويل بيكيت، التي أسست لمسرح «العبث» أو «اللامعقول» واحدة من أكثر مسرحيات القرن العشرين تعاسة وبؤسا وحتى إثارة للسخرية والضحك، وصار عنوانها عنوانا ورمزا وشعارا. ففي فصلها الأول يطالعنا الشريدان استراغون (غوغو) وفلاديمير (ديدي) واقفين قرب شجرة عارية في أرض عارية ينتظران وصول «غودو» الذي وعد بالمجيء. ويتواصل انتظارهما، حيث يزجيان الوقت في محاولة تذكّر ماضيهما، وفي محاولة تلاوة سطور من الكتاب المقدس، أو في مناقشة الشجرة القائمة عارية بالقرب منهما، أو مناقشة حضور غودو و«تصوير» مفهومها عنه، وروايتهما الفكاهات المختلفة وأحلامهما. قبل نهاية النهار يصل السيد والعبد بوزو ولاكي، حيث يعبّران عن علاقة حادة بينهما. وعند نهاية الفصل يأتي رسول من لدن غودو يقول إنه لن يأتي اليوم، لكنه سيأتي غدا. وفي الفصل الثاني الذي يدور في اليوم التالي يتابع ديدي وغوغو الانتظار، وتتغير العلاقة بين بوزو ولاكي، فعمي الأول وازدادت بلاهة الثاني. وينتهي هذا الفصل أيضا برسول يأتي من لدن غودو ليقول إنه لن يحضر اليوم، لكنه سيحضر غدا بالتأكيد. أمام هذه الوضعية غير المجدية يقرر ديدي وغوغو الانتحار بشنق نفسيهما على الشجرة، لكنهما لا يفعلان وتنتهي المسرحية.

ربما تعبر هذه المسرحية بدقة عن واقع المشهد السياسي في الشرق الأوسط، وعلى نحو خاص في سورية التي تحولت إلى مسرح اللامعقول والعبث بالأرواح والمصائر. لكن هناك بعض المتغيرات الافتراضية حدثت في الواقع السياسي العملي، فأصبح أمرا معقولا الاعتقاد بإمكانية وجود «احتلال رحيم»، وأن «غودو أميركي»، أي الرئيس الأميركي دونالد ترمب، جاء فعلا وانتظاره لم يستمر طويلا، وحل، حسب قول الدكتورة كايتلين تالمادج من كلية العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن، «لغزا» تجلى في خيارين: شن غارات تتسبب بالكثير من الأضرار التي تفوق تلك التهديدات الأخرى، فتجبر سورية وروسيا على إطلاق تصعيد جديد داخلي وإقليمي، أو شن هجمات محدودة تضمن تركيز الدولتين على أولويات أخرى، غير إطلاق التصعيد الشامل. أي أن ترمب لجأ إلى الخيار الثاني.

ورأى الكاتب مايكل كوهين، بصحيفة بوسطن غلوب الأميركية، أن قرار الرئيس ترمب بإطلاق 59 صاروخا ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد لمعاقبته على استخدامه الأسلحة الكيميائية ليس من السهل تصنيفه، إذ ينطوي على معضلة كبرى. وقال كوهين: «يبدو أن قرار ترمب كان مدفوعا إلى حد كبير بتأثره بصور الأطفال السوريين الذين قتلوا من جراء هذا الهجوم الكيميائي، ولا شك في أنها مشاهد مأسوية فعلا، ولكن منصب الرئيس يقتضي أن يكون محايدا ومدركا للتداعيات الإستراتيجية والعواقب المحتملة لاستخدام القوة العسكرية الأميركية، وآمل ألا يكون ترمب قد وجه أوامره ببساطة لشن هذا الهجوم العسكري بسبب انفعاله بتلك الصور المفجعة، وبخاصة لأن في ذلك مؤشرا مثيرا للقلق لتصرفات ترمب المندفعة التي من شأنها أن تقلب المواقف السياسية الخارجية الطويلة الأمد رأسا على عقب». ولذلك وصف قرار ترمب بـ«المتهور»، وخلص كوهين إلى أنه «ليس من المرجح أن يكون هناك تصعيد كبير، إذ يهدف الهجوم العسكري الأميركي، الذي لن يتكرر على الأرجح، إلى إظهار الولايات المتحدة قادرة على أن تفعل شيئا للرد على الأفعال الفظيعة، وربما يكون هذا الهجوم «مبررا»، ولكن لا يعني ذلك بالضرورة أن يكون «ذكيا».

أما باري بوسن، أستاذ العلوم السياسية بمعهد ماساتشوستش للتكنولوجيا ومدير برنامج الدراسات الأمنية، فذكر أنه من المثير أن قرار ترمب باستخدام القوة ضد الأسد «يُعد دعما مباشرا للاتفاق الذي تفاوض عليه الرئيس باراك أوباما في عام 2013 مع نظام الأسد (بوساطة روسية) لتخليص البلاد من الأسلحة الكيماوية والالتزام بالأعراف الدولية في استخدامها».

في السياق نفسه، كتب جدعون ليفي، الكاتب في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، حمل العنوان التالي: «أميركا التي تحرر»، قال فيه: «هذا هو الوقت لذكر كيف يبدو الوضع عندما تهب أميركا لإنقاذ شعوب أخرى بواسطة العمل العسكري: دائما الأمر ينتهي بصورة سيئة، وعادة بكارثة. المرة الأخيرة التي أنقذت فيها أميركا العالم من خلال الحرب كانت في عام 1945. كانت هذه حربها العادلة الأخيرة. ومنذ ذلك الحين تصرخ دماء ملايين الأشخاص وتقول إن أميركا هي التي ترتكب المجازر الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، وهي التي تسبب بموت هؤلاء الملايين في الحروب التي زعمت أنها ستنقذهم وتحررهم. عندما تحرر أميركا هي تزرع القتل والدمار وتتسبب ببكاء الأجيال».

وأشار ليفي إلى أن «المرة الوحيدة التي كانت فيها أميركا شريكة في النجاح الحقيقي في القضاء على نظام شيطاني في العالم، كان وقوفها ضد الأبرتهايد في جنوب إفريقيا. وهناك لم يتم إطلاق حتى ولو صاروخ واحد». ولذلك خلص إلى أنه «قد يكون من الأفضل أن لا تهب أميركا لإنقاذ أطفال سورية، خاصة إذا كانت اليد التي على الزناد هي يد ترمب. وفي المقابل، يجب إنقاذهم، ولا يجب ترك أي وسيلة. وباستثناء الولايات المتحدة لا يوجد أحد لفعل ذلك. بعد سنوات من الحرب الفظيعة في سورية لم تعد هناك حلول سحرية. ويمكن أن تكون صواريخ ترمب قد جاءت من أجل خدمة أهداف سياسية داخلية».

وإذا كان «التشاؤل» لا يشكل مخرجا واقعيا من حالتي: التفاؤل والتشاؤم بمستقبل الواقع السوري في مرحلة ما بعد قصف مطار «الشعيرات» بـ59 صاروخا من طراز «توما هوك»، فإن العودة إلى سجل تعامل الإدارات الأميركية، وعلى نحو خاص «الجمهورية» منها مع أزمات المنطقة، وفي مقدمها الفلسطينية وتاليا العراقية، تنذر بإمكانية استخدام إدارة ترمب القوة العسكرية بشكل متكرر. وطبعا تلبية لمتطلبات الأمن القومي الأميركي والمصالح الحيوية الأميركية أولا.