بينما تقرأ في الوثائق البريطانية ما يخص المنطقة العربية، وما توافقت عليه بريطانيا وفرنسا حيال شمال الجزيرة العربية، حيث وردت هذه العبارة التي تجرح الكبرياء عند كل عربي: وذلك ص 458 في المجلد الرابع من (الوثائق البريطانية) طباعة دار الساقي، إذ ينقل السفير البريطاني في باريس بتقريره إلى وزير خارجيته عن رأي فرنسي لسلوك العرب عام 1919: (وكل من يحاول الفتنة يتجه إلى السيد ضد الحامي، أي بكلمات أخرى إلى «النفوذ البريطاني ضد النفوذ الفرنسي» وبذلك نضع أمتين عظيمتين صديقتين تحت رحمة دسائس «البازار»/السوق) حيث ورد مصطلح أمتين عظيمتين صديقتين كمقابل لوصف الواقع العربي عام 1919، الذي شبهوه بالبازار/السوق، وكل هذا ونحن نشاهد الآن نفس المنطقة الواردة في هذه الوثيقة (الهلال الخصيب) تتقاذفها الدول العظمى، على أمل ألا ينظروا لنا كدول عربية نفس نظرتهم لنا قبل مائة عام، مجرد «بازار من الدسائس».
الكبرياء العربي المجروح في أن فرنسا وبريطانيا تريان في الوطن العربي عام 1919 مجرد بازار لنزاعات يجب أن لا يقعوا تحت رحمة دسائسها لأنهما (أمتان عظيمتان)، رغم أن هاتين الأمتين العظيمتين لا تقلان عن قبائل البازار في الدسائس، لكنهما تفوقتا في إدراك دروس التاريخ لتنضج عندهم (حقوق الإنسان) عبر سفك دماء بعضهم بعضا على مدى حروب المائة عام، ثم حروب الثلاثين عاما بين دول أوروبا في قرون مضت، ثم حربين عالميتين في القرن الماضي، ولنا في عصر التطور التقني الذي نعيشه الآن ما يشفع لأمة العرب أن تختصر الزمن وتتعلم الدرس بعدد ضحايا أقل، متجاوزين الكبرياء الكاذب والفخر المزيف الذي نمضغه في كل حين على أفواهنا عبر كلمة (كُنَّا) أصحاب حضارة، متناسين أن قبائل أميركا الجنوبية أيضاً كانت صاحبة حضارة المايا الأقدم، والمغول أصحاب الامبراطورية الأكبر على مر التاريخ بعد بريطانيا، فمن نحن؟، هل نحن مع الخلفاء الراشدين ونحن على غير رشدهم؟ أم نحن الأمويون ونحن ننتظر سقوط (دمشق) في الفوضى والدمار؟ أم نحن العباسيون وقد كان لذيذاً على قلوب بعضنا قصف (بغداد) بالطيران الأميركي؟ حتى عدنا بعد أن (ضيعت الصيف اللبن) نستعيد معركة دونكيشوتيه مع فارس والروم، فلا كنا رجال (القادسية)، ولا فرسان (اليرموك)، فعن أي حضارة (كُنَّاها) يتحدث العائل المستكبر؟
من يقرأ التقارير البريطانية في أول القرن التاسع عشر الميلادي، يصاب بالذهول حيال (ما أشبه الليلة بالبارحة)، الاختلاف البسيط في دخول روسيا على ظهر إيران بعد تخليها عن صدام، كلعبة (مفساح مقطار) أميركي روسي إصراراً من روسيا على حلمها الاستراتيجي منذ القياصرة بالوصول للمياه الدافئة ليكتمل الخط من إيران والعراق وسورية والبحر المتوسط، هذا الحلم الذي تورثه الأجيال لبعضها، مما يجعل القارئ يدرك معنى الاستراتيجية لأمم تحافظ على أهدافها وتسعى لها ولو استغرق الأمر مائة عام.
يبقى الرابط بين كبريائنا العربي وإيران الخميني، فلا نجد رابطاً سوى في تلاعب الدول العظمى بنا، إذ يرون أنفسهم (أمماً عظيمة) ويروننا بازاراً للدسائس والمؤامرات، فكيف نلوم تلك (الأمم العظيمة) ونحن حتى هذه اللحظة نقتتل لأسباب طائفية، صنعها شاه إيران بيديه، إذ رأى منطق (العرش) بعيداً عن منطق الشعب الإيراني العريق في حضارته، ليستخرج الإيرانيون من تاريخ حضارتهم أقبح ما فيه كحل أخير لمن لا يريد أن يفهم جدلية الزمن، ولهذا أشار فلاسفة القانون إلى أن الناس تتكئ في طمأنينتها إلى (نظام الدولة/القانون) عبر سلطات الدولة الثلاث والفصل بينها كضمانة لصالح الشعب، فإذا ضعف نظام الدولة/القانون عن تحقيق ذلك التجأ الناس لدينهم يستخرجون منه وبه ما لم يجدوه في نظام الدولة من كرامة وعدل، فيقودهم الملالي كحالة تعويضية لما عجز عنه رجال (التكنوقراط السياسي)، وإذا تسيد رجل الدين المشهد السياسي فافتح ثلاجات الموتى، لاستقبال ضحايا فتواه عبر صكوك الغفران، أما (الأمم العظيمة) فقد تخلصت من بازار الدسائس ومحرقة الفتوى.