الفقر من أخطر الأوبئة سريعة الانتشار، قادر على إبادة شعوب بأكملها، ولا يصيب دولة أو شعوبا بمفردها، بل ينتقل بجراثيمه المعدية، من بلد لآخر مخترقا جسد العالم بكل خبث، ليستوطنها ويتغذى على بؤس الكائنات الحية فيها، إلى أن ينمو ويتضخم. عندئذ يغتال ويشرّد كل شيء يتنفس على وجه الأرض.
نزل الخبر كالصاعقة على «أسماء»، بعد أن تسلمت خطاب إنهاء عقدها، وإعطائها مهلة شهر للمغادرة.
صرح لها مدير الموارد البشرية، بأنهم مضطرون لفعل ذلك بسبب انخفاض أسعار النفط، وهذا الإجراء لا يقتصر عليها بمفردها، بل يشمل ستة آخرين، ثم هنأها بكل وقاحة معقبا، بأنها من المحظوظين الذين حصلوا على راتب شهرين قبل المغادرة، وأخذ يشجعها بكلمات باردة، لم تكن بحاجتها في تلك اللحظة.
عادت إلى مكتبها، تحاول أن تستوعب تلك المصيبة التي لا تقبل التبرير، ودخلت في دوامة تفكر بمصاريف أدوية السكري، لابنها أحمد الذي يدرس في الصف الخامس، ومصاريف مدرسته ومدرسة أخته، وفي إيجار الشقة، وراتب سائق الأجرة الذي يوصلها لعملها يوميا، وفي ألف احتياج ومتطلب للحياة، ممكن أن تسقطها أو تتنازل عنها، عاجزة في نفس الوقت أن تقتنع بأن تلك الشركة الأجنبية الضخمة، القابعة بين عشرات الشركات مثلها، والتي توسع نشاطها وأعمالها في جميع مناطق المملكة، وللتو وقعت عقود مليارية مع الشركة الحكومية للنفط، تتعذر بانخفاض سعر النفط!
فتحت الكمبيوتر، وأخذت تجمع عدد الإنجازات التي حققتها الفترة الماضية، وتراجع جميع الرسائل الإلكترونية التي كانت تثني على إنجازاتها وأدائها المتميز، وأرسلتها لرئيسها، فحضر بعد قليل إلى مكتبها، ليؤكد أن الاستغناء عنها ليس له علاقة بالأداء، بل جاء مستندا على بند قانوني في نظام العمل، وعليها أن تتفهم بأن الشركة من حقها أن تسعى وراء مصالحها.
في ذلك الأسبوع، شاهدت «أسماء» وصول ثلاثة موظفين جدد غير سعوديين، وضعوا على نفس المناصب التي تم إخلاؤها، بعد أن تم تغيير مسميات تلك الوظائف، وربطها بسلم رواتب أعلى، تراوحت بين 30 و60 ألف ريال. في الأسبوع الثاني، طلب رئيسها المباشر بوجه بشوش للغاية، وبابتسامة عريضة، بأنه يمكنها أن تغادر قبل نهاية شهر المهلة، فبقاؤها لا معنى له.
عادت «أسماء» ذلك اليوم مبكرا لشقتها الصغيرة، بعد أن قررت أن تدفع إيجار شهرين، كي لا تجد نفسها مع أولادها في الشارع، وظلت تتواصل لمدة ستة أشهر مع وزارة العمل، ولم تخرج بنتيجة!
مر العام الماضي عليهم في ضنك لا يعلمه إلا الله وحده، بعد أن توقف كل من كانت تعرف من إقراضها المال، مرت على جميع الشركات والمحلات وحتى الأكشاك الصغيرة، للبحث عن وظيفة ولم تجد، بل كان يأتيها بأن سبب الرفض أن مؤهلاتها وتخصصها وخبرتها، أعلى من الوظائف التي تتقدم لها. باعت في السنة الأولى معظم أثاث شقتها المتواضعة، ومنذ بداية هذه السنة، وهي تتسول طعام أبنائها، فكل مرة تذهب إلى محل تموينات مختلف، تطلب من البائعين بعض الأطعمة البسيطة، أو تستوقف بعض السيدات، وتطلب منهن أن يشترين لأبنائها طعاما بعد أن نفدت جميع الحلول.
أثناء دخولي صيدلية الأسبوع الماضي، استوقفتني عيناها الذابلتان من خلف النقاب، تطلب بكل أدب أن أشتري لها ثلاث حقن أنسولين لابنها الصغير، متعذرة بأنها اشترت منذ قليل بكل المال الذي كانت تملكه، ولكنها تعثرت فتهشمت على إثر ذلك قوارير الدواء. هززت رأسي أسألها إن كانت تريد شيئا آخر. فمسكت بيدي وانفجرت في بكاء مرير، يتفتت له حجر الأرض.
الفقر أكثر آفة حقيقية تهدد الإنسان، وتجرده من جميع القيم التي تأسست عليها هويته، فلا يسبب له ضغوطا نفسية، تنحصر في عجزه عن تلبية احتياجاته ومتطلباته الأساسية فقط، بل يقوده لمرحلة صعبة وخطيرة جدا، يضطر فيها إلى انتهاج أساليب لا تليق به، فيحكم عليه الآخرون بالإجرام أو بالانـحطاط، في نظرة تتسم بالقصور، دون أن يتذوقوا طعم الحرمان والعجز، أو يمروا بنفس الظروف القاهرة ذاتها، فمثلا لن يتخيل الكثير، كيف ممكن أن يتسبب رغيف من الخبز، لقضِّ مضاجع الملايين حول العالم.
ومع الفقر تُغتال القيم الروحية وتستبدل بالقيم المادية، والأكثر مضاضة حين يختفي التراحم والتكافل بين الناس، ويبدأ بعضهم بالكذب في مسألة توفير الدعم أو المساعدة، بإطلاق عشرات النشرات التي تؤكد على ذلك، بينما ترى بعينك يوميا على أرض الواقع، أفرادا وأسرا، تم هدم حياتهم وتشريدهم، من أجل إنجاح حياة آخرين، يعيشون تحت أضواء مناصبهم الحساسة.
شعوب العالم حولنا لا تولد فقيرة، بل تتم صناعة فقرها باسم التطوير مع سبق الإصرار، فبعد أن استنزفت الدول العظمى موارد الدول الضعيفة، واستولت عليها أثناء انتشار الحملات الاستعمارية، فقدت هذه الدول أغلب مواردها، لتصبح شعوبا فقيرة تفشى فيها البؤس وانتشرت بها المجاعات. ليصبح الفقر طاعون العصر الجديد، الذي يفتك بشعب أي دولة يمر بها، ولا خير في أمم تسهم في انتشاره.