يجد الدارس للتغيرات الاجتماعية التي حدثت في المجتمع السعودي في العقود الماضية عنتاً كبيراً في فهمها، وذلك عائد إلى ضآلة التأريخ الاجتماعي لتلك المنعطفات والمفاصل والمراحل المهمة، برغم أن الصورة الاجتماعية الحالية كانت مآلا طبيعياً لتلك التغيرات من حيث علاقة الإنسان بنفسه، والأرض من حوله، وعلاقته مع الآخر، وطبيعة دور المرأة، والكثير من التغيرات الاجتماعية القمينة بالبحث والدرس.
هناك جيل شاب - كجيلي- يحاول فهم ما حدث ويقوم باستنطاق الصورة المجتمعية الحالية ليغوص في أعماقها وظروف نشأتها والمراحل التاريخية المهمة التي وهبتها ألوانها، خاصة أن هذا الجيل لم يجايل تلك المفاصل التاريخية والاجتماعية المهمة إلا من خلال ما يسمعه من همسات وقصص لبعض الكهول يمكن التلصص عليها وإدراك وجود حياة ماضية مختلفة، وهي أكثر انفتاحا اجتماعيا، وأقل حذرا فيما يخص الآخر والمرأة والكثير من الإشكالات الحياتية الحالية.
المرأة من حيث هي عنصر أساس في فهم تلك التغيرات، وعلى الرغم من ذلك لم تُعْن الدراسات الاجتماعية الحالية -على ندرتها - بها كثيراً برغم سيل التراجعات التي مرت بها في العقود الماضية، ومسلسل الانكسارات الرهيبة التي تعرضت لها، حيث لم تتعاف منها إلا مؤخرا -على استحياء- وتوازياً مع نقلات تنموية كبرى تُعنى بالإنسان ذكرا كان أم أنثى.
ومرد ندرة تلك الدراسات كان سببه ضآلة الكتابات التي تؤرخ للتغيرات الاجتماعية في العقود الماضية -كما ذكرت سابقاً- وكذلك بسبب تأخر اقتحام نوع كهذا من البحوث لمجتمع يوصم بمحافظته لصعوبة استنطاقه، وكشف علائقه، علاوة على عدم الوعي بأهمية تلك الدراسات إلا مؤخراً، وخصوصاً لفهم الكثير من الظواهر المتتابعة والأسئلة المجتمعية الساخنة والمتلاحقة والتي كانت مدار مقالات وبحوث وقراءات شتى، وكان تفجر ثورة المعلوماتية وانكشاف المجتمع على نفسه واكتشافه أنه مثل بقية سكان الأرض له أخطاؤه ونزواته قنطرة لهذا المجتمع للبوح و"الحكي" و"الفهم" لمجتمعه وللآخرين.
وبرغم كل الصعوبات التي تحيط بالدراسات الاجتماعية ـ كما ذكرت ـ إلا أنه مع توافر أقنية المعلومات وباستخدام استقراءٍ تاريخي غير رغبوي، ونبش في بدايات التغيير الاجتماعي، وربطه بالسياقات التاريخية والاقتصادية سيتمكن الباحث الجاد من فهم العوامل الحقيقية التي آلت بالمرأة إلى صورتها الحالية وتكدس نظرة مجتمعية معينة حولها مع احتياج الباحث إلى دربة لا تكل، وتمعن، وفهم عميق.
إليكم هذا المثال، بين يدي الآن عدد لمجلة العربي الكويتية الرائدة تلك التي تربى على زادها أجيال من المثقفين العرب وكانت كوة على المعرفة والتنوير. العدد يحمل الرقم 128 ومؤرخ بتاريخ 1389 هـ/ 1969 ومزين بغلاف لفتاة كتب تحت صورتها "أنا عربية من أبها". يحوي هذا العدد -المبكر نسبياً- "استطلاعاً" ثرياً عن المكان والإنسان في (عسير) وتفاعلهما مع بعضهما البعض. الاستطلاع حاول المرور على كل المفردات المتعلقة بالمكان، فكان حديثا عن الجغرافيا والمناخ والعمارة واللهجات والتقاليد والكرم.
مقاربته للحياة الاجتماعية في عسير كان أكثر إدهاشاً وخصوصا فيما يتعلق بالمرأة، حيث هي في التقرير امرأة فاعلة في مجتمعها تبيع وتشتري في الأسواق، لا تشغلها أبدا قضايا كالاختلاط عن ممارسة حياتها الطبيعية، ويتحدث التقرير عن أزيائهن واختلاف موديلات ملابسهن التي رآهن معد الاستطلاع يتشحن بها في الأسواق الأسبوعية. ونقل وصفاً لأحد الكتاب الذين زاروا المنطقة عن النسوة في عسير ( كأنهن النساء الأوروبيات في أناقتهن لولا طول الثوب!).
يتحدث "الاستطلاع" عن مسارعة الأهالي ومطالبتهم الحثيثة لتعليم المرأة، وأن طلبات فتح المدارس لتعليم البنات من قبل الأهالي تراكمت بالمئات لدى مسؤولي التعليم ولم يعودوا يستطيعون تلبية تلك الطلبات!
الاستطلاع يحفل بتفاصيل أخرى كثيرة مفارقة تماماً للوضع الحالي للمرأة، إلا أنه يمكن أن يكون بداية لفهم محطة تاريخية مهمة تلاها الكثير من المحطات التي بدورها تحتاج من يلقي بالضوء عليها وتكتمل سلسلة فهم تحولات المرأة السعودية بشكل عام ويمكن بالتالي الخروج من النفق وتنال المرأة مكانتها وحظوتها التي أراد لها قائد الوطن خادم الحرمين الشريفين أن تتبوأها وتحتل المكانة اللائقة بها شريكة في التنمية والتحديث.