في نهاية عام 2015 كنت في رحلة مع صديق لزيارة بعض شركائهم التجاريين في أنحاء المملكة، وقابلنا خلالها أحد رجال الأعمال في مدينة عرعر. كان يقول: «عرعر كانت بتسكّر» في سياق وصفه لحدة الركود الاقتصادي، وتدهور الخدمات الذي عانت منه منطقة الحدود الشمالية بسبب ضعف التنمية، والذي تزايد بسبب ظروف العراق وتعطل الحركة التجارية معه. ولم تتحسن أحوال المنطقة إلا بعد زيارة الملك عبدالله -رحمه الله- واعتماده حزمة من المشاريع مثل وعد الشمال وجامعة الحدود الشمالية.
هذه المشاهدة هي مثال لاختلال شمولية التنمية وكيفية علاجه. فإذا أمكن التعميم فإن قياس مدى شمولية التنمية وعملية إصلاح الاختلالات لا يحدثان بشكل مؤسساتي، بل يتطلبان زيارة المسؤولين، وهو ما يجب علاجه عبر تقسيم أهداف الوزارات عند رسمها على أكثر من مستوى لمنع هذه الانحرافات من الحدوث، ابتداء ذلك أن تبعاتها تستمر لأجيال حتى بعد إصلاحها.
اليوم جاءت رؤية 2030 لتبشّر بالعمل بصورة أكثر احترافية عبر وجود أهداف رقمية قابلة للقياس وشاملة لأبعاد مختلفة. إلا أن هذه الأهداف ما زالت تُغفل بُعد التوزيع على المستوى المناطقي، أو بين الجنسين، أو بين شرائح الدخل المختلفة. وينتج عن ذلك أمران: حدوث اختلالات في شمولية التنمية، وعدم تحقيق الغايات من بعض الأهداف.
في هذا السياق، أستعرض هنا مجموعة من أهداف الوزارات الواردة في الرؤية والبرامج المنبثقة عنها، وذلك على سبيل المثال للاستدلال على ضرورة تقسيم أهداف الرؤية على أكثر من صعيد.
تهدف وزارة التعليم إلى رفع نسبة الأطفال الملتحقين برياض الأطفال من 13% إلى 27.2%، ورفع متوسطات الطلاب في عدة اختبارات دولية. فبالإضافة إلى غياب التقسيم المناطقي تبرز إشكالية غياب التوزيع على شرائح الدخل. إذ يمكن للوزارة أن تحقق أهدافها عبر التعليم المدفوع. كما تهدف الوزارة إلى رفع نسبة المستفيدين من خدمات النقل المدرسي في المدارس الحكومية من 28% إلى 43%، وذلك دون ذكر كيفية تحقيق ذلك بين المناطق وحتى بين الجنسين.
أما على مستوى التعليم العالي فتهدف الوزارة إلى جعل 5 جامعات وطنية ضمن أفضل 200 جامعة عالميا. ما هذه الجامعات؟ وكيف يتم اختيارها؟ وهل سيعني ذلك سحب بعض الموارد من الجامعات التي لن يتم اختيارها؟ قد ترى الوزارة (وغيرها) تعريض أهدافها لمثل هذه الأسئلة، لمراعاة عدالة التوزيع، والتأكد من تحقيق الهدف للغاية منه.
كما تستهدف وزارة الصحة المحافظة على التكلفة التشغيلية للسرير الواحد عند 33 ألف ريال، مع رفع نسبة المستشفيات التي تفي بالمعدل المتوسط الأميركي لثقافة سلامة المرضى من 10% إلى 50%، دون الإشارة إلى وحدة القياس إذا ما كانت على مستوى المملكة ككل أم على مستوى المدن، الأمر الذي قد يتسبب في خفض التكاليف في أحد المستشفيات النائية، ورفع معايير السلامة في مستشفى آخر.
وبالرغم من عدم إمكانية تطبيق عدالة التوزيع بشكل مثالي لاحتمالية وجود أسباب منطقية لخفض التكاليف في مستشفى دون آخر، مثل طبيعة الحالات الطبية، إلا أن ذلك لا يعفي الوزارة (وغيرها) من ضرورة استهدافه ما أمكن.
أما وزارة العمل والتنمية الاجتماعية فتسعى لرفع عدد السعوديين المستفيدين من برامج تمكين القيادات العليا والواعدة من 138 إلى 6000، دون ذكر لكيفية الاختيار.
بالتأكيد، لا ينبغي أن يكون اختيارهم بطريقة المحاصصة، كما يجب لتقدير المسؤول أن يلعب دورا في ذلك، إلا أنه يجب التأكد من عدم اختيارهم بناء على القرب الاجتماعي أو الجغرافي، والذي يمكن أن يحدث حتى دون قصد. أيضا لا تقوم الوزارة بتوزيع هدف خفض البطالة بين الجنسين، رغم اختلال التوزيع الواضح في نسب التوظيف بين المواطنين والمواطنات الراغبين في العمل.
إن أهمية توزيع الأهداف عند رسمها لا تنحصر على ضمان شمولية التنمية، بل تتجاوزها لمعرفة مدى تحقيق غايات الأهداف. مثلا، تسعى وزارة الإعلام لرفع نسبة التحسّن في الصورة الذهنية عن المملكة من 38% إلى 58%، دون أي ذكر للتقسيم الجغرافي أو السياسي. وإذا كانت الغاية من هذا المستهدف هي دعم سياساتنا الداخلية والخارجية، فمن الممكن أن يجادل المرء بأن العائد من تحسين صورتنا ليس متساويا بين الدول والتيارات المختلفة. ولذلك فإنه من الضروري أن تفصح الوزارة عن كيفية قياس هذا التحسّن وأين يتم قياسه.
كما يجب أن يرتبط تقسيم الأهداف بطبيعة المستهدف ذاته. فالأهداف المتعلقة بالخدمات الحكومية للمواطنين (مثل الصحة والتعليم) يجب أن تقسّم بشكل عادل. وفيما عدا ذلك فإن عدالة التوزيع تكون أقل أهمية (ولا تنتفي أهميتها) مقارنة بالعائد على الاستثمار، ذلك أنه ليس من الحكمة أن نجعل عدالة التوزيع عقبة تقف أمام تنافسيتنا في العالم في ظل انفتاحنا عليه وإمكانية التنقل بين المناطق، تماما كما هو الحال في تحديد مواقع منشآت وزارة الدفاع لأسباب عسكرية في المقام الأول.
خلاصة القول، أرى أنه يجب العمل على شمولية التنمية بشكل مؤسساتي، وأن لا تخضع للتقدير الشخصي الذي يمكن أن يتأثر بالقرب الجغرافي والاجتماعي. وأرى أن توزيع أهداف الرؤية على مستوى المناطق والمدن وشرائح الدخل وبين الجنسين، هو خطوة ضرورية في هذا الاتجاه.