وأنا أكتب هذه السطور قرأت فتوى للشيخ صالح الفوزان (عضو هيئة كبار العلماء) أن تفجير الكنيسة المصرية قبل أيام هو غدر بـ«أهل الذمّة» من النصارى!.
ندرس في تعليمنا ونسمع في فتاوانا مصطلحات فقهية قديمة أن عورة الأمَة من السرة إلى الركبة، وأن دية العبد نصف دية الحرّ، في الوقت الذي انتهى عصر العبودية والإماء وتساوى الناس، وندرس أن الذمّي يدفع الجزية للمسلمين في الوقت الذي تغيّر فيه العالم وصارت علاقات البشر في البلد الواحد تحكمها تعاقدات وطنية تساوي بينهم، وتحكم علاقتهم بغيرهم من الشعوب معاهدات واتفاقات دولية، ولم تعد دارين فقط: دار إسلام ودار كفر.
ينادي كثير من الناس اليوم بتجديد الفقه، فما كان يصلح قبل 1000 سنة لا يصلح اليوم، بل ما كان يصلح قبل عشرين سنة لا يصلح الآن. يمكن لأي واحد أن يستمع إلى أي فقيه في أي برنامج في أي وسيلة إعلامية وسيجده يسرد في فتواه عشرات الآراء والأسماء من السلف، أي أن دور الفقيه اقتصر على توصيل رأي الأوائل إلى جمهور اليوم، وكل فقيه يجترّ من أوائل مذهبه وأقوال سلفه الخاص ما يبلغه لجمهوره، يعالج أمورهم بأدوات ما قبل ألف سنة وبعقول ما قبل ألف سنة، والنتيجة هي حالة الفصام التي يعيشها المسلم اليوم بين واقعه وبين فقهه.
إن عبارة «تجديد الفقه» تعني تلميع ذات الفقه القديم، تغيير بعض الأخشاب والمسامير ونفض الغبار عن ألواحه، لكنه هو ذات القديم، أما الجديد فهو ما تنتجه الآن.
ما الذي يمنع من الدعوة إلى إنتاج فقه باستمرار؟ الحقيقة أنه ليس هناك ما يمنع لولا أن مؤسسات المسلمين الفقهية تضع الدين والفقه والشريعة حزمة واحدة، فترسخ في ذهن الجمهور أن أي عملية إنتاج فقه جديد هي عملية إنتاج شريعة جديدة، وعملية إنتاج دين جديد!. وسأضرب مثلا بواحدة من المؤسسات الفقهية الحديثة؛ مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، المجمع يحدد لنفسه ستة أهداف منها:
ـ بيان الأحكام الشرعية فيما يواجه المسلمين في أنحاء العالم من مشكلات ونوازل وقضايا مستجدة من مصادر التشريع الإسلامي المعتبرة.
ـ إبراز تفوق الفقه الإسلامي على القوانين الوضعية وإثبات شمول الشريعة واستجابتها لحل كل القضايا التي تواجه الأمة الإسلامية في كل زمان ومكان.
ـ نشر التراث الفقهي الإسلامي وإعادة صياغته، وتوضيح مصطلحاته وتقديمه بلغة العصر ومفاهيمه.
ـ التصدي لما يثار من شبهات وما يرد من إشكالات على أحكام الشريعة الإسلامية.
نصف أهداف المجمع الفقهي ناتجة عن تفكير «نحن والعدو» وليس «نحن والعصر» ولا «نحن ومصلحة العباد»، فالمجمع يريد أن يتصدى لأعداء «الشريعة»، وأن يثبت للأعداء شمول «الشريعة» واستجابتها لكل القضايا في كل زمان ومكان عن طريق «نشر التراث الفقهي الإسلامي وإعادة صياغته بلغة العصر». فالمسألة هي إعادة صياغة لا غير.
كما أن المجمع يصف الآراء الصادرة عن شيوخه هي «أحكام شرعية» لا آراء فقهية، أي يدمجها مع الشرع والشريعة بما لألفاظ الشرع والشريعة من ثبات وعصمة في ذهنية الجمهور.
ويحدد المجمع المصادر التي يعود إليها شيوخه في فتاواهم/ أحكامهم الشرعية إلى «المصادر المعتبرة في التشريع الإسلامي» دون توضيح لهذه المصادر ولا كيف ولا عند مَن هي معتبرة.
إن مجمع الفقه الإسلامي يقدم نفسه بصورة عصرية أكثر من غيره من المؤسسات الفقهية الأخرى، لكنه مع ذلك لم ينعتق من ذات القيد.
هذا القيد هو جعل الدين والشريعة والتراث الفقهي شيئا واحدا. إن أول خطوة لإنتاج فقه متجدد باستمرار هي الفصل بين ما هو بشري (تراث فقهي وفقه متجدد) وبين ما هو إلهي ثابت (دين)، لكن هناك معضلة تقف في طريق هذا الفصل وهي أن لكل دولة مؤسستها الفقهية الخاصة، بل لكل جماعة ولكل تنظيم، والكل يدرك هذه المعضلة.