فلسفة التربية يمكن تصورها من أكثر من منطلق، على سبيل المثال يمكن أن نتصور هذا المجال المعرفي باعتباره مجالا تطبيقيا للأفكار الفلسفية، كما يمكن تصوره على أنه معمل إنتاج الأفكار الفلسفية. التصور الأول ينظر لفلسفة التربية على أنها المجال المعرفي الذي يمكننا من خلاله تطبيق الأفكار الفلسفية على العملية التربوية. في المقابل التصور الثاني يرى أن فلسفة التربية هي الإطار العام للفلسفة، باعتبار أن التربية هي مصدر ومختبر الأفكار الفلسفية. فيما سبق حاولت تحليل ونقد التصور الأول. النقطة الأساسية في ذلك النقد كانت أن التصور الأول يعزز الفصل بين النظرية والتطبيق وبالتالي فهو يعزز المشكلة الواقعية التالية: تتم صياغة القرارات التربوية بعيدا عن الميدان، ويتم تطبيق العملية التربوية بعيدا عن مصدر القرار. المعلمة/المعلم تشعر بأنها تعمل كأداة ليس لها رأي في إدارة العملية التربوية، وصاحب القرار يعيش في عزلة عن التجربة الواقعية في الميدان التربوي. هذا الحال يتسبب في إحباط العملية التربوية باعتبار أن روح التفاؤل والأمل مرتبطة بتوفر القدرة على المشاركة الفاعلة والمساهمة في اتخاذ القرارات وهي حالة غير متوفرة لغالب المعلمات والمعلمين وبالتالي الطالبات والطلاب.

في هذا المقال يفترض أن أقدم نقدا للتصور الثاني لفلسفة التربية رغم أنه التصور الأقرب لتقديم حالة تفاعلية بين الفلسفة والتربية ويعيد الربط بين الفكر والعمل. التصور الثاني ينطلق من تعريف جون ديوي للفلسفة بأنها النظرية العامة للتربية. التربية بهذا المعنى تعني عملية التواصل الإنساني ومختبر الأفكار والأخلاق والتصورات والمشاعر والعلاقات. بمعنى أن التربية هنا تقترب من معنى الحياة الكاملة التي هي في الأخير موضوع الفلسفة. فيلسوف التربية، بحسب هذا التصور، ينطلق من التجربة التربوية كمصدر للسؤال الفلسفي وكمصدر لاختبار الجواب الفلسفي. أحد الاستشكالات على هذا الطرح أنه يحيل فلسفة التربية إلى عمل قريب بشكل واضح من البحث العلمي الطبيعي. الإشكالية تكمن في كون التجربة الإنسانية التربوية، التي هي موضوع فلسفة التربية، تختلف بشكل جوهري عن البحث الطبيعي الذي هو موضوع العلم. عالم الإنسان هو عالم الحرية والإرادة بينما تحكم قوانين الطبيعة بشكل مطلق عالم الطبيعة. بشكل أوضح: موضوعات التربية «البشر» تمتلك إرادة خاصة تجعل من توقعنا لتصرفاتهم وردود فعلهم احتماليا في أحسن أحواله. في المقابل الموضوعات المادية لا تملك هذه الإرادة، ولذا فهناك إمكان لوضعها ضمن علاقات سببية واضحة، ويمكن قياسها بدقة. هذا يعني أن المنهج العلمي القائم على اختبار الحلول في معمل التجربة قد لا يكون مناسبا للتجربة الإنسانية. التجربة الإنسانية معقدة من جهة كما أنها فردية بمعنى أن كل فرد سيكون له حالة خاصة، وبالتالي سيصعب جدا تعميم نتائج الاختبار. نتذكر هنا أن التعميم ضروري للبحث العلمي الذي يسعى لاستنتاج قوانين شاملة لموضوعاتها وليس فقط لعينات الدراسة.

 جون ديوي في المقابل يراهن على المنهج العلمي وعلى قدرته على دراسة التجربة الإنسانية مع بعض التعديلات على التصورات الكلاسيكية للعلم. يرى ديوي أن المنهج العلمي قادر على بحث التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها متى تخلص من التصور الكلاسيكي للحقيقة باعتبارها نتيجة ثابتة ومطلقة ومكتملة. يستخدم ديوي الأطروحة البراجماتية لتقديم تصور تفاعلي للحقيقة. الحقيقة هنا لا تعني سوى معرفة تجيب بقدر كاف من الثقة على أسئلتنا. هذه المعرفة مفتوحة على احتمال التغير في المستقبل، كما أنها بالضرورة تخضع لاختبارات مستمرة للتأكد من فعاليتها مع التجارب الجديدة. الحقيقة بهذا المعنى هي تجربة مستمرة باستمرار البحث الإنساني. هنا ديوي يتخلص من إشكالين: الأول: التصور الجامد للحقيقة باعتبارها مطلقا كليا. الثاني? التصور النسبوي للحقيقة والذي يجعلها فردية بلا إمكان لتوافر معايير موضوعية. الحقيقة بالمعنى البراجماتي تتجنب الإشكالين وبالتالي فهي من جهة قادرة على التفاعل مع التجربة الإنسانية المتحولة والمتجددة باستمرار، ومن جهة فهي قادرة على تقديم ما هو ثابت ومستقر نسبيا بحيث يحقق الأغراض العملية للبحث المعرفي.

 هذا المنهج يتطلب منا التعامل مع التربية بانفتاح وتواضع. انفتاح على إمكانات التغير والتجدد المستمرة. هذا لب التجربة الإنسانية خصوصا مع الأطفال الذين نتعلم منهم باستمرار التطلع المفتوح لعالم المستقبل والانفتاح على الجديد والمختلف في حياتهم. في ذات الوقت هذا المنهج يطلب منا محاولة استنتاج معارف وأطروحات للتطبيق تجعلنا ندفع بالعملية التربوية لآفاق أفضل. هذا الغرض العملي مهم جدا للتعامل مع العملية التربوية، حيث تواجهنا أسئلة عملية لا بد من الجواب عليها. المثالية تقول لا بد من الجواب عليها جوابا حاسما نهائيا، والسفسطائية النسبوية تقول إنه لا يوجد أي جواب موضوعي لتلك المشكلات، لكن البراجماتية تؤكد على إمكان جواب يمكن الثقة به لدرجة كافية تمكننا من استعماله والاستفادة منه دون الوقوع في أسره مهما كانت نتائج الواقع.

 التصور الثاني لفلسفة التربية كمختبر للأفكار الفلسفية يفقد فعاليته حينما يتم التعامل معه من خلال المنهج العلمي الكلاسيكي المصمم تحديدا لدراسة الظواهر المادية. لكن المنهج المرن التفاعلي الذي يقترحه ديوي قد يقدم لنا خدمتين أساسيتين: الأولى تنظيم ومنهجية التفكير العلمي والثانية الاستجابة لتفاعلية وانفتاح وتعقيد التجربة الإنسانية.