ما زلنا ونحن في سِنِيِّ التحصيل نسمع من بعض أساتذتنا من يتباكى على الخلافة الإسلامية، ويبشر بعودتها ليصبح العالم الإسلامي كله يأتمر بأمر خليفة مطاع، يقام في عهده العدل، ويحكم بالشرع، ويلغي الحدود، ويسهل الانتقال بين رعايا الخلافة، فلا جوازات، ولا تأشيرات دخول، ولا أذونات إقامة؛ فالبلاد واحدة، والخليفة واحد، وخلاف ذلك من التّخيّلات التي تقدم صورة طوباوية لعالم ليس له وجود إلا في خيالات الحالمين به. وكنا ونحن صغار السِّن نُؤْخَذ بتلك الأقوال، ونتأثر بها، وبمطلقيها من أساتذتنا العرب الذين درسونا حينذاك، والذين كنا لا نعرف شيئًا عن انتماءاتهم الحزبية، ولعلهم -في تقديري- من حزب التحرير أو جماعة الإخوان المسلمين.
ولعل من يتأمل أقوالهم، ويستقرئ التاريخ بمختلف عصوره يدرك أن الخلافة الإسلامية انتهت بموت أمير المؤمنين علي رضي الله عنه؛ فبموته أصبح للمسلمين خليفتان، أحدهما الحسن بن علي بن أبي طالب الذي بايعه أنصاره في العراق والحجاز واليمن، والثاني معاوية بن أبي سفيان الذي بايعته الشام وبعض مصر، وكانا على وشك الاحتراب لولا تنازل الحسن عن الخلافة لصالح معاوية بعد خمسة أشهر من بيعته فيما يسمى بعام الجماعة، وانتقلت الخلافة من الكوفة إلى دمشق، وتحوّلت إلى ملك وراثي حينما أخذ معاوية البيعة لابنه يزيد من بعده، مع بقاء اسم الخلافة علماً على الدولة، ولقب خليفة علماً على من يتولى الملك كابراً عن كابر. وتلك الخطوة من معاوية رضي الله عنه أَحْسَبُها من أهم الإصلاحات التي طرأت على الدولة الإسلامية، وإلا لعمّت الفوضى، ولما استقامت للدولة الإسلامية قائمة. وقد استمر الأمر على ذلك الحال طوال حكم بني أمية، ثم بني العباس من بعدهم حتى أسقطت الخلافة على يد السلطان العثماني سليم الأول بُعيد ضمّه لمصر في عام 923هـ. فهل كان خليفة المسلمين طوال تلك الحقبة الزمنية مُجْمَعًا عليه في جميع البلاد الإسلامية؟ والجواب قطعًا بالنفي؛ لأن خلافة بني أمية -إذا استثنينا الشطر الأول من عهد معاوية- كانت في مختلف عهودها على صفيحة من نار حتى وهي في قمة قوتها وازدهارها في عهد عبدالملك بن مروان الذي كان يحارب على أربع جهات، واستمرت الأحوال غير مستقرة لبني أمية من بعده حتى إن آخر خلفاء بني أمية وهو مروان الثاني بن محمد كان لا يخرج من حرب إلا ويدخل في أخرى حتى لُقِّب بالحمار لصبره وقوة تحمله. ومع ذلك لم يستطع المحافظة على عرش بني أمية الذي أسقطه العباسيون، وطاردوا مروان نفسه حتى قتلوه في أبو صير بمصر سنة 132هـ.
أما خلافة بني العباس التي بشّروا بأنها ستحكم العالم كله، وبأنها ستعيش إلى آخر الزمان، فإنها ما كادت تسترد أنفاسها بعد مطاردتها لبني أمية حتى استقلت عنها الأندلس على يد عبدالرحمن الداخل الملقب بصقر قريش، ذلك اللقب الذي أطلقه عليه أبو جعفر المنصور حينما هزم الجيش الذي أرسله إليه، وقتل قائده، وأرسل رأسه مع من رماه أمام خيمة أبي جعفر المنصور في الحج، وهذا القول من أبي جعفر يُعَدّ اعترافاً صريحاً باستقلال الأندلس عن جسم الخلافة العباسية. وفي عهد هارون الرشيد الذي يُروى عنه قوله للسحابة «أمطري حيث شئت، فإن خراجك يصلني بعد حين» لم يستطع منع الأدارسة من الاستقلال بالمغرب الأقصى سنة 171هـ، وتبعهم الأغالبة في تونس بدءًا من سنة 184هـ، أما ابنه الخليفة المعتصم فإنه فقد السيطرة حتى على عاصمته بغداد، مما اضطره تحت وطأة عسكره العُلُوْج الذين استقدمهم من بلاد ما وراء النهر إلى الانتقال إلى سامراء عاصمته الجديدة التي اختطّها على بعد حوالي 80 كيلو مترًا إلى الشمال من بغداد، فازداد عنفوانهم وسيطرتهم على الخلفاء العباسيين حتى قيل عن ابنه وخليفته الواثق بن المعتصم:
خَلِيْفَةٌ في قَفَصٍ
بين وَصِيْفٍ وَبُغَا
يقُوْلُ ما قَالا له
كما تقولُ البَبَّغَا
فاستقلّ الطولونيون بحكم مصر، وتبعهم الإخشيديون، واستقلّ بنوطاهر بحكم خراسان، واستقلّ الزياديون بتهامة اليمن، وبنويَعْفُر بحكم صنعاء، والزيديون بحكم صعدة وجوف اليمن، ولم ينصرم القرن الثالث الهجري إلا والعالم الإسلامي تتنازعه ثلاث خلافات إسلامية: الخلافة العباسية في بغداد، والخلافة الفاطمية في القيروان، والإمامة الزيدية في صنعاء، وتبعهم الأمويون في الأندلس حينما تلقَّب عبدالرحمن الناصر بلقب أمير المؤمنين سنة 316هـ، وهكذا حتى إن اليمن وحدها وعلى صغرها كان يخطب على منابرها لأربعة خلفاء في آن واحد، هم: الخليفة العباسي المستنجد بالله، والخليفة الفاطمي العاضد لدين الله، والإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان، والإمام شمس شريعة الإسلام عبدالنبي بن مهدي.
وحينما سقطت بغداد سنة 656هـ، وأسقطت معها الخلافة العباسية بقتل آخر خلفائها المستعصم بالله عمل مماليك مصر على إحيائها في القاهرة بمبايعتهم الخليفة أبا العباس أحمد الملقب بالحاكم بأمر الله. إلا أن هذا الخليفة العباسي الجديد ليس له من الأمر شيء مع زعيم المماليك الظاهر بيبرس الذي شاركه في الخطبة، ونقش اسمه معه على السكة، واستقوى به على من سواه من سلاطين العالم الإسلامي- حينذاك-حتى إن سلاطين بني رسول باليمن لم يعترفوا بالخليفة الجديد في مصر اتقاءً لسلطة المماليك، وظلّوا يخطبون باسم الخليفة المستعصم بالله، وينقشون اسمه على نقودهم -على الرغم من مقتله- حتى سقوط دولتهم عام 858هـ (الخزرجي، العقود اللؤلؤية، القاهرة 1329هـ،ج2،ص69)، وتلك قضية أخرى قد نتوقف عندها في مقال آخر غير هذا.
أما الخلافة العباسية في مصر فظلّت قائمة اسمًا بلا رسم حتى أسقطها السلطان العثماني سليم الأول سنة 923هـ كما أسلفنا. وبذلك زالت الخلافة الإسلامية القرشية إلى الأبد. وهناك من يظن أن السلاطين العثمانيين خلعوا على أنفسهم لقب خلفاء، وهذا غير أكيد حتى وإن دُعُوا بالخلفاء، وبظِلّ الله في الأرض؛ لأنهم ظلّوا حتى سقوط دولتهم يصبغون على أنفسهم لقب السلاطين، وأقرب دليل على ذلك ظهور هذا اللقب على نقودهم التي تحمل لقب: سلطان البَرَّيْن وخان البَحْرَين. ومعروف أن السكة أو النقود هي من أهم إشارات الملك، ولو كانوا خلفاء لكان من باب أولى ظهور هذا اللقب على نقودهم.
نخلص مما سبق إلى أن الخلافة الإسلامية على الصورة التي كانت عليها في عهد الخلفاء الراشدين لم تعد صالحة لزماننا الذي توزّع فيه العالم الإسلامي إلى دول معروفة الحدود، وذات سيادة على أراضيها، وأن هذا الزمن هو زمن التكتلات السياسية والاقتصادية كما هو الحال مع دول الكومونويلث البريطاني، والأمم الفرنسية، والآسيان، والاتحاد الأوروبي، وجامعة الدول العربية، ومجلس التعاون الخليجي. ولكي يعزز المسلمون وحدتهم بمختلف مذاهبهم عليهم تقوية أهم رابطتين تجمعهم هما: رابطة العالم الإسلامي، ومنظمة التعاون الإسلامي.