أحيانا يأخذني التأمل السياسي عندما أستعيد مشهد هبوط الخميني إلى مطار طهران وهو يتكئ على كتف (الخطوط الفرنسية) ثم أتذكر ضرورات الحرب الباردة بين خوف سقوط إيران بيد الاتحاد السوفياتي، وبين بقائها بمن ظنه الغرب حليفا محتملا، لأنها آوته في منفاه وظنت أنها قرأته جيدا، وطبعا لا يفوت القارئ حالة الغثيان التي تصيبه وهو يرى بعض المنشقين على الدولة ـــ عندنا ـــ يحاولون محاكاة الخميني عبر منابرهم ولحاهم، لتتوهم كل لحية في نفسها أنها مشروع خميني سني، فأغلب ما يطرحونه مزايدة دينية يمجها الإنسان المتحضر العارف بمعنى دولة حديثة، رغم كل النقص الذي يعترينا ونرجو تجاوزه، لكن الرهان في الإصلاح على العقلاء وليس في إثارة كل من فيه نزعة من خبال وعته.
ولهذا فمن أسباب عدم الثقة لحال الإخوان المسلمين حتى في تونس، أن مشروعهم أصلا كان يسير باتجاه استنساخ الخميني كمرشد أعلى لحزب واحد، ولكن الدرس القاسي في مصر، أزال وهم البعض بأن ضمانة الديمقراطية كافية مع هؤلاء، متناسين عن عمد أو غفلة قراءة المنهج الخميني في التمكين أولا ثم التصفية الدموية لحلفاء المرحلة التمهيدية من اليساريين ثم التصفية الأعمق للمنافسين المحتملين من نفس التيار الشيعي للملالي داخل إيران، كل هذا حفظه الإخوان المسلمون في مصر عن ظهر قلب، ولو أن المرحلة التاريخية تتقاطع مع فترة الخميني فإن أول تصفية بعد التمكين ستكون في التيار السلفي كشريك محتمل، وكل ذلك للانقضاض على السلطة فتمسك بلعبة الديمقراطية كما أمسك بها الخميني فتعيد إنتاج نفسها عبر حزب واحد ما زال يعيد إنتاج نفسه في طهران باسم الديمقراطية وصندوق الانتخاب منذ قرابة نصف قرن، ولهذا ما زلت عند ظني بأن السيسي ــــ رغم كل الاختلاف ضده أو معه ــــ كان حلا ــــ ولو كان مرّا على قلوب البعض ــــ لخمينية سنية يقودها حزب الإخوان في مصر، فنراهم يستكملون مشوار تصدير ثورتهم السُنيَّة في كل الوطن العربي الجاهز بكوادره عبر (حركته العالمية) لنرى مئات اللحى تستن بسنة الخميني في ولاية الفقيه، تلك الولاية التي تعتبر جاهزة أصلا في المذهب السني، وينقصها الفعل في أدبيات (فقه المتغلب)، كما تحاولها الآن داعش بفجاجة وحمق يختلف عن نعومة الإخوان المسلمين الظاهرة التي تستبطن ربيبتها السنية في السرورية السعودية وربيبتها الشيعية في حزب الدعوة الإسلامي في العراق، تلك اللزوجة السياسية الموحدة التي تجدها عند هؤلاء وأولئك وإن اختلفت المذاهب، (ولعنت كل أمة أختها)، لكن الثعلب يبقى ابن عم القيوط.
ومصر صمام الأمان العربي بجيشها قبل السيسي، ولهذا يكون الرهان على جيش مصر ممثلا بالسيسي، وكما ضحى الجيش بأعز أبنائه (حسني مبارك) من أجل مصر، فسيبقى الجيش ضمانة مصر الحقيقية ضد كل من يعجز عن فهم حركة التاريخ للشعب المصري وجدليته، سواء من داخل مؤسستها العسكرية أو خارجها.
أما إيران فلا ندري هل نلقي اللوم في ظهور الخميني على الكليشة المعتادة التي يمضغها بعض المثقفين قبل رجال الدين (الشعب الإيراني متدين بطبعه) أم نلقي اللوم على الشاه الذي لم يتعلم من درس (محمد مصدق) أن المرحلة التاريخية تقتضي الإصلاح الجذري لمؤسسة الحكم بما يزيد السيادة الوطنية متانة، أكثر مما تقتضي الارتماء في حضن أميركا أكثر على حساب الشعب والسيادة الوطنية، فقد بدأ منطق (نشوء قوميات ما بعد الاستعمار)، ولم يلتفت الشاه لذلك ما دامت أميركا معه، ليصعد فجأة محمد مصدق كحلم قومي أبيض وفق منطق (السيادة القومية لما بعد الاستعمار)، وعندما فشل هذا الصعود عبر تكنوقراط القومية الإيرانية (الحديثة)، عاد الناس بعد سقوط مصدق لمنطق (التراث)، فتضلعوا عبر عشرين عاما من أشرطة الكاسيت والمنشورات بأفيون التاريخ لتراهم في الشوارع سكارى بعمامة الخميني إلى حد وصول مروحية تحمله بعد أن عجز قائد سيارته عن شق طريق لها وسط الجماهير الحاشدة، وها هم الآن يكتشفون كيف أن حلمهم الأبيض في مصدق (التكنوقراط) قد تحول إلى كابوس أحمر على يد الخميني (آية الله)، رغم أن الهدف القومي للنخبة من مصدق حتى الخميني وإلى هذه اللحظة مع روحاني بقي واحدا (السيادة القومية الكاملة للقرار الإيراني) لأن ذاكرتهم موتورة جدا ولنخاع العظم بغرب استعماري استنفد مواردهم أيام الشاه، ليعطي وهم الحياة المرفهة في طبقة محدودة من الكمبرادورية المافيوزية لبلد السبعين مليون نسمة.
أما الشعب الإيراني الآن فيعيش مخاضه الخاص لمعالجة جراح حضارته الممتدة لأربعة آلاف سنة، وذلك عبر جدل داخلي، يفوق ما نتصوره ظاهرا على السطح، وقراءة سريعة لكتاب (بيم موج/ في اللجة/ المشهد الثقافي في إيران مخاوف وآمال) للرئيس الأسبق محمد خاتمي، تعطي تصورا عن حالة جمل المعصرة الذي عاشته إيران عبر ولاية الفقيه لثلاثة عقود عجاف، وكلهم بمن فيهم بعض الملالي يريد تعليق الجرس، لكن من يجرؤ وذاكرة الرؤوس المعلقة طازجة بين حين وآخر، ولكل أجل كتاب.