يقول أحدهم لصديقه «اترك العلم لأهله، أما أنا وأنت فمساكين». لطالما سمعنا مثل هذه النصائح الفاشلة، غير أن الملفت اليوم في هذه العبارة أنها لم تكن من شخص فاشل كي تمر مرور الكرام كالعادة، غير أنها صادرة من مثقف يحمل شهادة عليا، الأمر الذي يؤكد أن الحكم للفكر والمنطق وليس لتحصيل الشهادة العلمية فحسب. وعلى الرغم من تحفظي على مقولة سقراط الشهيرة «تحدث حتى أراك»، إذ إن القيمة بالنتاج الفكري وليست بطلاقة اللسان أو عدمه، غير أن «تحدث حتى أراك» تعطي صورة قريبة مما يدور في جمجمة المتحدث.

لن أتحدث عن المثبطين عواجيز الفكر والهمة الذين ابتلينا بهم ولهم إسهامات كبيرة في تخلف الأمة. حديثنا سيكون عن محاولة رفع الهمة لصديقنا الذي وقع عليه التثبيط وأمثاله وتذكيره وغيره بالحق الممنوح للجميع في الاطلاع والمعرفة في كل حقول العلم بلا استثناء.

لقد درج عند الناس فكرة التخصص في حقل علمي واحد، ولا يحق لصاحبه الحديث في غير تخصصه. نحن لسنا ضد مسألة التخصص فهي مطلوبة، ولها غالبا عمق ونتاج رائع، لكن المرفوض هو أن يظل المتخصص سجين تخصصه مغلولا بأصفاده.

سجل لنا التأريخ القديم والوسيط والحديث نماذج بشرية كانت عبارة عن موسوعات علمية ومعرفية في تخصصات مختلفة، ساهموا بهذه العلوم في تقدم ونهضة البشرية جمعاء. أبرزهم، على سبيل الذكر لا الحصر، أرسطو الذي غطت كتاباته الفيزياء والميتافيزيقيا والشعر والمسرح والمنطق والبلاغة واللغويات والسياسة والأخلاقيات وعلم الأحياء وعلم الحيوان، ديكارت أيضا له إسهامات في الفلسفة والرياضيات والهندسة والفيزياء.

الحضارة الإسلامية أيضا تزخر بأسماء عديدة كان للفرد منهم إسهامات واسعة في مجالات علمية متعددة، كالفلك والطب والأدب والاقتصاد والكيمياء والفيزياء والموسيقى وعلم النفس والرياضيات والسياسة، منهم الكندي وابن سيناء وابن رشد (الفيلسوف، القاضي، الطبيب، الفقيه، الفلكي، الفيزيائي) والإمام السيوطي الذي ذكر ابن إياس في «تأريخ مصر» أن مصنفاته بلغت 600 مصنف في علوم الدين واللغة والأنساب والتأريخ والشعر.

تُرى لو كان حول هؤلاء وغيرهم، أناسا مثبطين من أصحاب مقولة «اترك العلم لأهله»، يطالبون المبدعين بحصر أنفسهم بتخصص واحد والتوقف عن بقية العلوم، هل كانوا سيقدمون لنا ما قدموه من علوم شاملة؟ إننا للأسف، كمجتمع، نُثني على أصحاب العقليات العلمية الشاملة، لكننا نقمع من يريد خوض هذه التجربة ونطالبه بالعودة لسجنه التخصصي!

قد يقول من يركن للتخذيل والدعة لتبرير خوَره وقصور همته؛ وهل تريد أن تكون أرسطو أو الكندي أو السيوطي؟! ويا للعجب، وكأن القضية أن تكون فلانا أو لا تكن، ثم إن المطلوب ليس أن تكون موسوعة علمية شاملة بل، وعلى أقل تقدير، إدراك معرفي معقول لعلوم مختلفة على سبيل الكلية لا التفصيلية.

إن العلوم النظرية لا يلزم منها التخصص البحت، فلا تحتاج لمختبرات وتجارب لعلوم كعلم اللغات، الدين، القانون، والعلوم الاجتماعية ونحوها، تقتصر حاجة هذه العلوم على الإرادة والهمة وبذل الوقت في النظر والمطالعة والتأمل ثم الاستنتاج دون وسيط بشري أو تجهيزات معملية أو منشآت صناعية كسائر العلوم التطبيقية، ولهذا السبب تُقبل في كثير من تلك العلوم النظرية الدراسة بالانتساب.

ورغم دراستي الجامعية في العلوم الشرعية إلا أنني وغيري، نرى عدم لزوم التخصص المنهجي في المجالات النظرية، فكم من علماء وطلاب علم برزوا في تلك المجالات ولم تطأ أقدامهم صرحا جامعيا.

وعليه، فإن من ارتقت همته، علت مهمته، أما أصحاب «دع العلم لأهله» فقد كفانا بهم الحطيئة بقوله:

دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبُغيتها

واقعدْ فإنك أنت الطاعمُ الكاسي!

فمن حق المسلم أن يطّلع ويقرأ ويبحث بنفسه في العلوم الإسلامية ويتناول المسائل الخلافية بتمعن في النصوص والأقوال، كي يتخذ رأيه الفقهي بدراية وقناعة شخصية، دون الالتزام بمذهب أو فقيه معين. ومن تيسير الله تعالى أن جعل دينه يسيرا سهل المعارف لمن أراده من عامة الناس، وليس حكرا على خواصهم، وبالتالي فإن منع الخوض في المسائل الشرعية كهنوت ما أنزل الله به من سلطان، وحرمان للمسلم من حقه الطبيعي. والنصوص التي تتحدث عن تحريم القول بالحلال أو بالحرام في الأحكام إنما هي عمن يتحدث بغير سابق علم ومعرفة واطلاع، فإذا تحققت هذه الأمور انتفى المانع.

هذا في جانب الفرد على وجه العموم، أما المثقف فالمهمة الثقافية التي تقع عليه أكبر. إنه لا يليق بمثقف يعيش في بيئة معينة ألا تكون له دراية ومعرفة بعلوم وثقافات بيئته، فلا يليق بمثقف مسلم ألا تكون له قراءة واطلاع على الحضارة الإسلامية وفنونها وعلومها. كذلك هو المثقف العربي لا يسعه الجهل بالعلوم والفنون العربية. ولا يسع مثقفا عصريا إلا أن تكون له معرفة واطلاع بما يدور في عصره من علوم ومعارف وحضارة.