لا تستطيع أن تدلي برأيك، وتقول ما يختلج في صدرك بكل صدق، بل بدلا من ذلك تردد ما يقول الآخرون، وتوافقهم الرأي، حتى لو كنت غير مقتنع، فقط كيلا تبدو غريبا أو شاذا عنهم. وحين تواجه بنظرة استنكار من أحدهم، تدّعي أن ما قلت لم يكن سوى دبلوماسية، وأنت تعرف جيدا أنك ضُبطت متلبسا بالمداهنة، وإن كنت تتمنى لو أدليت برأيك الصحيح، بدلا من أن تخذل من كان يؤمن بنزاهتك ويتوقع منك الصدق. ومع ذلك تنافح بأنك لم تحترف الكذب، بل أقنعت نفسك بأنه ذكاء، مع أنك تعرف أن صمتك وتجاهلك عن قول الحق مرارا وتكرارا، كان سببا لتحول من كنت تتملقه إلى طاغية بطش بمن كان حوله بجهل، ولم يستثنك منهم.

حين لا توافق على المعتقدات والأفكار الخاطئة، تسهم بذلك في تصحيح مفاهيم كثيرة، وتصبح من الذين يحدثون تغييرا إيجابيا في المجتمع، بدلا من أن تثقله، وتسحبه إلى الوراء بخوفك من أن تُنعت أو تُتهم بمسميات ترفضها.

هل مؤلم أكثر أن يوصمك الآخرون بمسمى من تلك المسميات البغيضة، وأنت على حق، أم تفضل أن تبقى مثالا للجبن الذي لا يهمه سوى أن ينال رضاء شخص واحد، من أجل مصلحته؟

فتستمر في خداع نفسك طويلا، كي تسلم من ألسنة الآخرين، لأنك ترتعد من فكرة أن يتحدثوا عنك، أو لا تبدو محبوبا لديهم، مع أنك لو تركتهم يتحدثون كما يريدون، لن ينالهم سوى جفاف الريق.

وكل ما أصبحت عليه اليوم، لم يكن سوى امتداد لمواقف علمتك كيف تكون مثلهم، فعلى سبيل المثال، حين كنت طفلا صغيرا، وتُركت تلهو بين أقاربك، سيحز في نفسك أن الكبار لم يكترثوا بك، فلا أطعموك في غياب والديك، ولا أعطوك من الحلوى التي وزعوها على أبنائهم. وحين يعود والداك، وتحاول أن تعبّر عن حقيقة ما حدث في غيابهم، وكيف تم إساءة معاملتك، ينعتوك بطفل مشاغب وعاق، لأن صراحتك، تسببت في إحراج شديد لأقاربك، فبدلا من أن يُعاتبهم والدك ربما ينهرك، أو يتهم والدتك بالإفراط في تدليلك. مع أنك لم تخطئ، فقط كنت صريحا، ولكن ردة فعلهم السلبية تلك، دفعتك في المرات التي تلتها للكذب، كي لا يغضب والداك وتتعرض للعقوبة.

وفي المدرسة، حين ينهي معلمك الشرح ويطلب ممن لم يفهم أن يرفع يده، ليعيد الشرح ثانية، حين ترفع يدك لتعبّر عن عدم فهمك لجزئية معينة. ربما تصدمك ردة فعل المعلم غير المنطقية، على أمر طلبه بنفسه، فبدلا من أن يشرح لك الجزئية التي لم تفهمها ويختصر الوقت، يتعمد اتهامك جزافا باللامبالاة وعدم الانتباه إلى الدرس. وحين تحاول أن تبرر له، بأنك رفعت يدك لتُعبر عن عدم فهمك، بناء على طلبه، ربما تتعرض للتوبيخ، أو الاتهام بقلة الاحترام ليس لأنك كذلك، بل لأنك خالفت التوقعات التي اعتاد عليها نهاية كل حصة، والتي جزء منها أن تهز رأسك مثل بقية زملائك حتى لو لم تفهم. فالطالب النجيب، من المفترض أن يفهم من أول مرة، ولا يُحرج معلمه، فحين قررت أن ترفع يدك لتعلن عن عدم فهمك، كان ذلك بالنسبة له اتهاما مبطنا بأنه لم يوفق في شرح الدرس. فالخروج عادة عن ثقافة القطيع، لا يقرؤه كثيرون استقلالا في وجهة النظر أو الرأي، بل إعلانا للتمرد. فأصبح المعلم في الحصص التالية، يتربص بك لتسهو وينتظر زلة صغيرة وإن لم تزل، ينصب لك شركا، لتقع فيه ثم يفتك بك في الدرجات.

وحين تكبر وتؤهلك شهادتك ومثابرتك، للحصول على وظيفة بشق الأنفس، سيفرض عليك الجو العام في العمل أن تتبع النمط السائد نفسه، لإرضاء عشرين رئيسا ورئيسا، وإطعام غرورهم مهما كان الثمن. فإذا وجدت من بينهم اثنين أو ثلاثا يقنعونك بعدم إصابتهم بمتلازمة المنصب، فستكون بذلك إنسانا محظوظا، لأن انتهاك قوانين العمل، واستخدام السلطة لإيذاء الآخرين، أصبحا جزءا من منظومة العمل التي عليك الانصياع لها، ومهما تعلمت من مهارات وأشقيت نفسك بدورات تدريبية، لن تصل إلى مبتغاك، دامك لا تملك مهارة تعدد الوجوه، وسرعة تغييرها بانسيابية لمجاراة الرؤساء. فهم عادة، لا يرون كم هم بغيضون غشاشون ومخادعون، ولكن يعرفون جيدا أن سلطتهم الحالية تُخضعك تحت إمرتهم، وتجبرك على خلع رجولتك وأنت تبتسم، وارتداء معطف الجبن والبلاهة، والطاعة العمياء التي تجردك من أن تكون.. أنت.

مهما حاولت أن تتحاشى الانزلاق في المعارك، سيأتي عليك وقت يدفعك لخوض إحداها، فتأكد حين تفعل أن تكون شجاعا، فبعض المعارك لا تقبل الهزيمة. وكن أنت، وتمسك بنفسك، مهما كان الأمر، حتى لا تضل هويتك وتتيه بين رغبات البشر، وتذكر بأنك حين تتنازل عن قيمك وأدبيات الحياة، لن يحترمك الآخرون مهما أبدوا من رضا نحوك، فحتما سيأتي عليهم يوم ويرحلون، وقتها سيصعب عليك أن تتعرف نفسك على نفسك.. لذا تعلم أن تكون أنت.