الرأي العام كما أفهمه هو: موقف واحد تتخذه النسبة الكبرى من مجتمع ما تجاه قضية معينة، وهو – في زعمي – لا يكون ضمنيا أو عفويا تجاه القضايا التي يمكن الاختلاف عليها، أو ذات الطرفين، أو الأطراف المتعددة، وإنما يكون نتيجة تحشيد ممنهج يعي المؤثر الموحد في نفسيات الجماهير، ويستخدم تنبؤاته المبنية على فهم ما يعرف بـ«سيكولوجية الجماهير»؛ بمعنى أن تشكل رأي عام حول قضية ما، لا يكون عارضا، بقدر ما يكون نتيجة فعل مقصود، وهذا معلوم عند المتخصصين في الإعلام والاتصال، على خلافٍ بينهم، وأرى أن أسباب الاختلاف ليست علمية خالصة، إذ يشوبها شيء من آثار الأدلوجة التي تؤثر في رأي هذا الباحث أو ذاك؛ ذلك أن المؤدلج – على الدوام – يحاول الفرار إلى الأمام من تهمة الأدلجة؛ ولذا يعمد – هنا – إلى نفي وجود النمط المنظم من أساليب صناعة الرأي العام، ويؤكد على عفوية الموقف الجماهيري الموحد، احترازا من اتهام العاملين على تشكيله بالتغرير، أو بعدم احترام العقول، أو باستخدام الرأي العام لابتزاز السلطات، أو تحقيق مكاسب، سواء أكانت فردية، أم فئوية، أم حزبية.
وسائط الاتصال الحديثة باتت الورقة الرابحة في تشكيل الرأي العام، فهي أكثر تأثيرا، وأسرع انتشارا؛ ولذا تلجأ إليها المجموعات السياسية القابعة في الظل، والجماعات المحظورة في الإعلام التقليدي، فيما تواصل السلطات الحاكمة، أو ساسة الواجهة الاعتماد على الإعلام التقليدي في توجيه الرأي العام، وهو إعلامٌ لم يعد قادرا على تحقيق اشتراطات نظرية: «التأثير الفعال»، فشتان بين التأثير السريع والواسع لوسائط الاتصال الحديثة، والتأثير البطيء والمحدود للإعلام التقليدي.
تنهال على هواتفنا يوميا مئات الرسائل الـ«واتسية» المعممة، ونقرأ في تويتر وفيسبوك آلاف التغريدات، وآلاف المنشورات المتعلقة بقضية محددة في زمن محدد، وهي رسائل ذات موقف واحد، فضلا عن أنها تأتي مذيلة بطلب مواصلة نشرها من خلال جملة: «لا تجعل هذه الرسالة تقف عندك، وأرسلها إلى كل من تعرف».
المثال أعلاه أنموذج لطرائق صناعة الرأي العام، وهي تنجح في جذب المحايدين والمذبذبين إلى صف صانع الرأي العام، دون أن يستوعبوا اختلاف أهدافه الخفية، عن أهدافهم النبيلة المعلنة، ودون أن يدركوا أن الظاهر الأخلاقي للرسالة، مختلف عن باطنها غير الأخلاقي اختلافا جوهريا؛ لأنها قائمة على ممارستين غير أخلاقيتين: أُولاهما التضليل المبني على التوظيف السيئ للدين والقيم، وثانيتهما الترويض الذي يظهر في مجانسة الرسالة مع الدين والقيم والعادات، وهو فعل يمكنني أن أطلق عليه: «تسميم الرأي العام».
نجاح صانع الرأي العام في مثل هذه الحال، جاء من استخدامه المؤثر العاطفي المشترك في نفوس الجماهير، وهو في مجتمعاتنا الدين أولا، والعادات والتقاليد ثانيا ومعاضدا؛ ولهذا فإن الرسائل الإنكارية جلها تتضمن جملة: «لا يرضاها ديننا، ولا عاداتنا، ولا تقاليدنا.....إلخ»، حتى إن هذه الجملة باتت «كليشة» ثابتة في هذا النوع من الرسائل.
شعور الفرد بالقوة عند تفكيره بعقل المجموعة، أو بعقل صانع الرسالة الهادفة إلى تشكيل رأي عام، يجعله يتبنى – دائما – موقف العقل الجمعي، مستقويا ومحتميا بالحشد الضخم الذي يتفق معه ويؤيده ويشكره ويدعو الله بـ«أن يكثر من أمثاله»، وهذا يلغي سمو الفرد بذاته، ويضعف ملكة التفكير والتبصر، إلى حد أن هناك من لا يعلن عن مواقفه وآرائه، إلا بعد معرفة الرأي السائد، فيتبعه ليكون من الحشد الأقوى، لمجرد أنه حشد.
الكلام يطول، و«الرمز للعقول» كما قال د. علي الموسى حين كان شاعرا.