على عادة الفرنسيين، كانت جارتي السبعينية اللطيفة تسقي زهورها في الصباح، حين لمحتني فألقت عليّ تحية الصباح مع ابتسامة بشوشة. شكرتها وتبادلت معها بضع كلمات تقليدية عن الربيع الذي بدأت بوادره في الظهور.
سألتني عن الأحوال في بلدي، وقالت إنها تأثرت كثيرا بالمشاهد التي رأتها في الأخبار عن سورية، وأن علي أن أحمد الله لأنني نجوت بنفسي، وهربت من تحت القصف، ومن خطر الموت. شكرت مشاعرها اللطيفة، وقلت لها مازحة، ربما أعود قريبا. استغربت وقالت: إن هذا جنون، وإنه لا يحق لي أن أذهب إلى بلد تمزقه الحرب، وأعرّض نفسي للخطر، فقلت لها: ربما لا يكون قراري الشخصي، ولكن انتخاباتكم قريبة، ويبدو أن زعيمة اليمين المتطرف «ماري لوبان» تملك حظوظا كبيرة للفوز، وأنه في حال فازت، فأول ما ستفعله هو طرد المهاجرين أمثالي.
ابتسمت جارتي السيدة «تيريز» بحنان أمومي وقالت: لا يمكن، لا تصدقي ما تشاهدينه في الأخبار. في النهاية نحن فرنسيون، لا يمكن لفرنسا أن تسمح لأحد يحمل أفكارا معادية للإنسانية مثل السيدة «لوبان» من الوصول إلى مركز اتخاذ القرار. يمكن أن تظهر كثيرا في وسائل الإعلام، ويمكن أن يستمع إليها بعض الفرنسيين، ويظهرون تعاطفا معها، وتضامنا مع بعض أفكارها، لكن هذا ليس سوى تعبير عن الغضب لا أكثر، قلت لها: إن ربع الفرنسيين يؤيدونها بحسب استطلاعات الرأي، وهذا يعني أنها ستصل إلى الجولة الثانية، وتصبح لديها فرصة كبيرة للفوز.
قالت: ألم أخبرك أننا فرنسيون. استطلاعات الرأي عندنا لا تعني أي شيء، ولم تصدق يوما، وبغض النظر عن ذلك، فإن تأييد بعض الفرنسيين لـ«ماري لوبان» يشبه أن تكون الأم غاضبة من ابنها، يمكن أن تتفوه بأي شيء، يمكن أن تتمنى له الشر أو تهدده أو ترميه بشيء ما في يدها، لكن في لحظة الحقيقة لا يمكن لها أن تؤذي ابنها، ولا أن تسمح لأحد بإيذائه، والفرنسيون اليوم غاضبون من فرنسا، يشعر كثير منهم أنها ليست فرنسا التي يعرفونها ويريدونها. لذلك، ترينهم يظهرون تأييدا لـ«لوبان»، ويغيّرون رأيهم في المرشحين الآخرين طوال الوقت.
قلت لها باسمة: هل أطمئن إذن وأزرع زهورا مثل زهورك، دون أن أخشى أنني سأفقدها يوما؟ أنهت جارتي اللطيفة تحليلها السياسي البسيط بعبارة عميقة للغاية: أهم صفة في الفرنسيين أنهم ليسوا أميركان.
رغم بساطة الحديث وتلقائية مكانه وزمانه، إلا أنني تأثرت حقا به، وشعرت بشيء من الطمأنينة بعد الذي قالته جارتي العجوز، وبدأت باستعادة ما أعرفه عن فرنسا والفرنسيين، وعن تاريخ فرنسا القريب والبعيد، وكل ما استحضرته يؤكد كلام جارتي وعباراتها المطمئنة.
ففي المجتمع الفرنسي، هناك اعتبار كبير لما يسمونه «قيم الجمهورية»، وهي مجموعة من القيم تحكم المجتمع وعلاقاته، كما تحكم السياسيين والمؤسسات، وأول هذه القيم العلمانية وحقوق الإنسان، فاحترام الفرنسيين للإنسانية لا تعلوه قيمة أخرى، ولا يمكن لتفجير يقوم به إرهابي مجنون في محطة للمترو، أن يغيّر من قيم مجتمع ترسخت عبر مئات السنين، ودفع الفرنسيون لأجلها أثمانا كبيرة، وشعارات الثورة الفرنسية التي ما زالت حيّة تنبض في قلب كل فرنسا، ستكون في النهاية العامل الحاسم في تقرير مصير الانتخابات التي باتت قريبة جدّا.
صحيح أن هناك موجة من الشعبوية تجتاح العالم، وكان آخر تداعياتها الكبيرة فوز دونالد ترمب برئاسة الولايات المتحدة، وأن هناك موجة من العداء للعرب والمسلمين تجتاح العالم، وموجة أخرى من الخوف من المهاجرين تعم أوروبا، لكن كل ذلك لن يجعل شعبا كالشعب الفرنسي، يتخذ قرارات جماعية خاطئة، تحرّف تاريخه عن مساره، والشعارات المخيفة التي تطلقها ماري لوبان مثل الانفصال عن أوروبا، ومثل طرد المهاجرين، وغيرها، تلقى ربما بعض الصدى في المجتمع الفرنسي، ولكن لا أحد يستطيع التكهن بمدى جديتها في لحظة الوصول إلى صندوق الانتخاب.
على المستوى الشخصي، لست خائفة حقا من أن تطالني يد ماري لوبان في حال فازت في الانتخابات، وفي حال نفذّت تهديدها، لكن الأمر مثير للقلق، ويتعلق بمستقبل العالم، فبعد فوز ترمب صار هناك خوف عالمي من موجة سياسية مجنونة ستجتاح العالم، ولا يمكن أن يقف في وجهها سوى بضع قوى، ومنها المجتمع الفرنسي، ولا أقول الدولة الفرنسية، فالفرنسيون في النهاية ليسوا أميركان، كما قالت جارتي الحكيمة.