من الأمور التي تثير استغرابي في الخطاب العربي الرسمي والشعبي الهجوم والنقد اللاذع للاتجاه الشعبوي الذي أصبح يتمدد في أوروبا وأميركا، خصوصا بعد الانتصار غير المتوقع للرئيس الأميركي ترمب في الانتخابات الأخيرة، ومكمن هذا الاستغراب هو أنه في حال رجعنا لكثير من أدبيات الخطاب العربي منذ مرحلة استقلال الدول عبر ثورات عنصرية واشتراكية أتت بالقومية والناصرية وما تلاها من شوفينية عربية لم تنتج لنا إلا دولا ديكتاتورية تساقطت عبر السنوات واحدة بعد الأخرى، حتى وصلنا اليوم لعالم عربي مفتت ومشتت بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
الشعبوية كما تعرفها المراجع هي أيدلوجية وخطاب سياسي يستخدم إخافة الناس بالاستناد لمخاوفهم المسبقة بهدف الحصول على السلطة والقوة، مستخدمين في ذلك المواضيع القومية والشعبية، ودغدغة مشاعر وعواطف الجماهير دون تقديم المعلومات الدقيقة والأرقام والبيانات الحيادية التي تخاطب العقل والعقل وحده.
في أميركا اللاتينية التي كان لها الأسبقية في الشعبوية منذ عشرينات القرن الماضي نهضت لمواجهة المستعمر الأجنبي الذي ثارت عليه الشعوب من منطلقات عنصرية، فكان الخطاب يرتكز على الـ(أنا) الساكن الأصلي ضد الـ(هو) الرجل الأبيض المحتل، وفي كل مرة وصلوا للحكم في تلك الدولة اللاتينية أو تلك يقومون بخطوات مماثلة تبدأ في تغيير الدستور بعد اتهامه بأنه يوالي ويخدم الصفوة ثم من خلال مَأْسَسَة السيطرة وتثبيتها كأمر واقع، وأخيرا تحويل الدولة من دولة مؤسسات إلى علاقة مباشرة بين الحاكم والمحكوم، ليخلق مع ذلك شخصية الحاكم الدكتاتور صاحب الفضل الشخصي على الوطن والمواطن.
في عالمنا العربي ما زلنا نعيش حالة مشابهة لهذه الشعبوية، نتهجم عليها اليوم لأنها (تتشعبن) إن صح التعبير علينا نحن العرب والمسلمين، في حين أننا كنا وما زلنا شعبويين في نظرتنا لكل ما يحيط بنا من أقوام وأحداث وأفكار، نعتبر وجود المخالف لنا في المذهب عميلا يجب أن نحيده على أقل تقدير ونعتمد خطاب المشاعر والعاطفة في كل حدث يدور من حولنا، وفي حال حاول أحدنا تحكيم منطق العقل والتحليل المحايد في خطابه الجماهيري فإن لعنات العمالة والتخوين في الولاءات تصبح العنوان الوحيد المقبول شعبويا.