سجل المتابعون للقمة العربية الـ(28) التي أقيمت مؤخرا على ضفاف البحر الميت أهمية خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز لجهة تجديده الدعوة لإصلاح حقيقي ومؤثر في جامعة الدول العربية، تأكيدا على رغبتها الملحة في تطوير وتعزيز آليات العمل العربي المشترك في وقت تعاني خلاله الجامعة من ضعف في مواجهة التحديات التي تحيط بالمنطقة من كل صوب، وترهل في أدائها السياسي والتوفيقي.
ويرتكز الموقف السعودي لتطوير الجامعة على ثلاث نواح سياسية، وهي إيجاد ميثاق يجمع ما بين أعضاء الجامعة العربية ويركز على ضرورة أن يكون هناك التزام واضح من قبل جميع الدول العربية الأعضاء بما ينص عليه الميثاق وخاصة ما يتعلق بالقرارات التي تصدر بالإجماع على مستوى القمة أو المجلس الوزاري لوزراء الخارجية. بما يسمح باتخاذ إجراءات رادعة ضد أي دولة عضو تمتنع أو تماطل في تنفيذ أي التزام يتم إقراره تحت قبة المجلس. والمحور الثاني وهو ما ينبغي القيام به على المستوى الأمني والسياسي والمحور الثالث هو الجانب الاقتصادي وأهميته باعتباره لب أي عمل عربي تكاملي.
إن التحديات التي تمر بها الجامعة في الفترة الحالية أكثر جدية من أي وقت مضى، والظرف الذي تمر به الأمة أشد خطورة، فالقضية الفلسطينية لا زالت تراوح مكانها، وتنذر بالتحول إلى مرحلة أسوأ، بعد أن لوح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعزمه إلغاء حل الدولتين، ومواصلة الاستيطان، وسلب منازل الفلسطينيين لإقامة مستوطنات جديدة، تمزق أوصال الأراضي العربية وتحولها لمجرد كانتونات متباعدة ومعزول عن بعضها البعض. والأزمة السورية تتواصل، دون أن يلوح في الأفق بريق يشير إلى إمكانية الحل، في ظل التدخلات الدولية والتعنت الإيراني الذي يجهض كافة مساعي الحل السياسي، كما ان العراق لا زال يدور في دوامة الصراع الطائفي، بعد أن تناسلت الميليشيات المذهبية التي جاءت بها إيران، وتكاثرت، وقويت شوكة المنظمات الإرهابية حتى صارت تقارع الجيش الوطني، وليبيا تتقاذفها هواجس التقسيم، وتعبث بها الكتائب المسلحة، في ظل تهديد بتدخل روسي جديد، يزيد تعقيدات الأزمة، ولا يسهم في إيجاد حلول لها. أما أرض العروبة ومهد الحضارة، اليمن، فإن أوضاع مواطنيه تزداد صعوبة، بسبب ما تمارسه ميليشيات الحوثيين الانقلابية وفلول حليفها المخلوع، علي عبدالله صالح، بعد أن ارتضوا العمالة لإيران، وأداروا ظهورهم للحلول السلمية والجهود الدولية.
هذه الأوضاع المأساوية تتطلب عملا عربيا جادا في وقت أصبح فيه العرب الحلقة الأضعف والأقل تأثيرا في هذه الصراعات التي تواجه دولهم وتنهش مراكز القوى العالمية مقدراتهم وإرادتهم.
إن الحاجة ماسة بل وملحة للتماهي مع دعوة الملك سلمان ورؤيته الثاقبة لجهة أن تصلح الجامعة العربية نفسها وطريقة أدائها وأدوات عملها، بعد أن ظلت سنوات طويلة تكتفي بالشجب والإدانة والرفض والتنديد، إلى غير ذلك من أدوات التعبير السياسي التي تظل في موقع الأقوال ولا تتحول إلى أفعال. رغم ما تنفقه الدول العربية من ميزانيات ضخمة لتسيير شؤون الجامعة، وهي ميزانية كفيلة بتحويلها إلى أداة سياسية فاعلة، قادرة على إحداث الفارق، ولم الصف وتوحيد الرؤى.
خلال السنوات الماضية فقدت الجامعة ثقة الشعوب العربية، قبل حكوماتهم، ولم تعد اجتماعاتها وقراراتها تجد صدى لدى المواطن العربي العادي، الذي لم يعد يتذكر حتى مواعيد قممها أو يلقي لها بالا أو يجشم نفسه عناء متابعتها، ورغم ما قيل عن مبادرات لتطوير الأداء وتحسين بيئة العمل وآلياته، كما أعلن أمينها العام السابق، نبيل العربي، أكثر من مرة عن دراسات أنجزت لذلك الغرض، إلا أن ذلك لم يحدث للأسف، ولم يجد طريقه للتنفيذ.
وهنا تبرز أسئلة مشروعة عن تلك الدراسات، والجهات التي قامت بها، والمبالغ التي صرفت عليها، وبماذا أوصت، وما هي الحلول التي وضعتها للخروج من الأزمة، وما هو مصيرها؟
آلية العمل في الجامعة ينبغي أن تأخذ شكلا أكثر جماعية، بدلا من الانفراد باتخاذ القرارات، ولو كان من قمة هرمها الإداري، فلا بد أن تشعر كافة الدول الأعضاء بأنها شريكة أصيلة في اتخاذ القرارات المصيرية، وهنا تكون الجامعة قد أصلحت من نفسها بإعمال مبدأ الشورى والجماعية، قبل أن تنطلق لإرساء ذات المفاهيم على المستوى العربي.
المؤمل من الأمين العام الحالي، أحمد أبو الغيط، التركيز على إصلاح البيت الداخلي، وامتلاك الأدوات التي تعينه على إحداث نقلة نوعية في طريقة العمل، وهو الدبلوماسي المخضرم الذي قضى نصف عمره في دهاليز وزارة الخارجية ويعلم بواطن وأسرار العمل الدبلوماسي. فإذا ما أراد أن تكون له بصمة وأثر، عليه ألا يضيع وقت في البحث عن الثغرات والعوائق، فهي معروفة واضحة، وأن يوجه جهده لإيجاد الحلول. وعليه النظر بعين الاعتبار للرؤى الإصلاحية التي أقرها المجلس الوزاري للجامعة والتي تقودها المملكة والجزائر وبعض الدول الأعضاء، لإصلاح الوضع الحالي، وإدراك أن ما وصل إليه حال الدول العربية لا يحتمل مزيدا من إضاعة الزمن.
لا بد للجامعة أن تنعتق من أسر الرؤى الضيقة والمصالح الآنية، وأن تنطلق في فضاء القومية الواسع، لأنها بيت لكل العرب، لا يختص بدولة دون سواها، فمشكلاتنا متعددة، والأخطار التي تحيق بنا كثيرة، وأمامنا عمل جبار للتصدي لها. أما إذا أصر القائمون على أمر الجامعة على الدوران السالب في الفلك القديم، فسوف نظل نجتر إشكالاتنا ونبكي ماضينا ونجلد ذواتنا، دون أن تثير اجتماعاتها انتباه المواطن العربي.