أحيانا وأنت تريد الكتابة عن أمر ما، تحتار كيف تبدؤه وأنت تحرص فيه على أن تكون واقفا في منطقة الحياد بين الإنصاف المادح أو المديح المنصف، فلا فرق بينهما وأنت ترصد ما تراكم من مشاهدات مدهشة وحقائق ثابتة، وتطلع على رؤى لا تملك إلا أن تصفق لها باليدين وبالكلمات. هذا ما يحدث معي دائما بعد كل مرة أعود منها من جازان، جازان المكان وجازان الإنسان والمكوّن.
تُعرف كثيرا من المدن بجامعاتها، بالدور الذي تقدمه والذي تسهم من خلاله في تغيير واقع المجتمع وتنويره وتطويره ورفع الدرجات العلمية لأبنائه وخلق فرص العمل لهم عاما بعد عام، لكن جامعة جازان لا تقوم بهذا الدور وحسب باعتبارها المادي، فأبناء جازان لم يكونوا منذ وعينا على هذه الحياة طارئين على العلم قبل جامعة جازان ولا بحديثي عهد بالتميز المعرفي والتقدم العلمي والأدبي والمهني، رجالا ونساء، لهذا كانت بصمتهم على جامعتهم كبيرة جدا وواضحة وفارقة عن غيرها من الجامعات وليس العكس، وحينما أُتيحت لهم الفرصة بوجود تلك الجامعة لديهم انطلقوا منها نحو رحاب التميز حلقوا في فضاء الإبداع دون تعب.
في الأسبوع الماضي خرّجت جامعة جازان الدفعة الثانية عشرة من طلابها وطالباتها، وكنت شاهدا على عرس الطالبات الخريجات في ليلة كانت هي شاهدا أيضا على تفرد المرأة الجازانية في عطائها ومهارتها في قيادة ما تصبح مسؤولة عنه. ولعل أهم المشاهدات التي خرجت بها من تلك الليلة والنهار الذي يليه عقب جولة سريعة في مقر مبنى جامعة جازان الجديد ما يلي:
- التخصصات النادرة التي خرجتها الجامعة في شطر الطالبات، كطب المناطق الحارة والعمارة ميزة تُحسب لجامعة جازان، خاصة وأنهما تخصصان تحتاجهما المنطقة، والأخير بالذات يعد من التخصصات النادرة للفتيات في جامعات المملكة الباقية، ولكم كان مدهشا ومختلفا أن تسير الخريجات من قسم العمارة ضمن مسيرة بقية الخريجات وهن يرتدين خوذات الهندسة البيضاء، بدلا من قبعات التخرج السوداء التقليدية في صورة نادرة لا نراها في بلادنا بالعادة.
- كان عدد الخريجات يفوق الأربعة آلاف خريجة أغلبهن تواجدن رفقة واحدة على الأقل من ذويهن، بالإضافة للمدعوات الأخريات التي تشير إحصاءات تلك الليلة إلى أنهن بلغت قرابة الـ12 ألف حاضرة في مساحة مكانية صغيرة نسبيا خلال فترة زمنية قصيرة. كل هذه الجموع تم التعامل معها بسلاسة وتنظيم دقيق ومبهر، سواء في مسيرة الخريجات أو توجيه الحاضرات للمقاعد المخصصة، وتوالي فقرات الحفل دون ارتباك أو تأثر بكثافة الحشود المتواجدة. تنظيم هذه الأعداد الكبيرة يحتاج لمهارة وقيادة خاصة استطاعت المسؤولات عنها في تلك الليلة تولي زمام أمرها باقتدار ملفت، والحفاظ على مناسبة الفرح أن تبقى فرحا لا ينغصه خلل طارئ يحدث بالعادة في الحشود الكبيرة خاصة النسائية منها.
- جازان مدينة تخلق الفرح، وتجيد صناعته. لم يكن المحفل رسميا بطريقة خانقة معتادة في المحافل الرسمية، بكل كانت مناسبة سعيدة بالفعل بكافة تفاصيلها. والمدن انعكاس لأهلها؛ فالإنسان الجازاني معجون طين تكوينه بأسباب الفرح والإبداع والبساطة، فيصبح كل ما يعمله بدافع حب وبنكهة سعادة وببساطة متصالحة مع الذات قبل الآخرين تأخذ المنجز نحو الأهداف دون تعقيد. كانت المدينة على مدى أسبوع تختال فرحا واحتفالا بخريجيها، وتقف بشموخ في ذات اللحظة تحضن بجبالها البعيدة جنودنا المرابطين على الحد والتي يمثل أبناؤها جزءا كبيرا منهم. مدينة حكيمة تقف في كل موقف بما يليق به خالصة من عقد النقص. الإنسان في جازان أقرب نموذج للطبع الإنساني السوي، فهو لا يفزع من مشاركة الجنس الآخر له عمله وحديثه ووقته، ولا ترعبه الموسيقى ولا يقاوم التقدم، ولا يقف مسلوب الهوية أمام سطوة الجديد. لهذا نلحظ ارتفاع سقف طموحه، وإصراره على الإبداع حينما يعقد العزم على ذلك.
كان هذا بعضا من الجانب الإنساني لانطباع ليلة فرحة جازان بخريجها للسنة الثانية عشرة على التوالي، ونأمل أن يستوعب أولئك الخريجات والخريجون سوق العمل سريعا، وأن تتاح لهم الفرصة للعطاء والمشاركة والبناء في هذا الوطن الذي ييسر لهم سبل التعلم والحصول على درجات علمية عالية، وأن يتم إحلالهم مكان كثير من الوافدين حتى لا تنهش البطالة سعادتهم.