أوردت المعاجم في أشكال النعرة ما يلي: (النعرة القبلية، النعرة القومية، النعرة الدينية، ومن معاني النعرة بضم النون: ذباب ضخم أزرق العين، أخضر اللون، وله إبرة في طرف ذنبه يلسع بها ذوات الحافر خاصة، وربما دخل في أنوف الخيل والحمير، وتهيجها فتركب رأسها ولا يردها شيء).
وفي هذا المقال أتوجه إلى العقلاء كي ينبهوا أنصاف العقلاء من هذه النعرات، فالنعرة لا تأتي بخير حتى ولو لبست ثوب القبيلة أو الوطن أو حتى الدين، فكل عيوب القبيلة العربية في عصرنا الحديث كان سببها (النعرة) التي يفاخر بها الحمقى عندما تدخل أنوفهم فيهيجوا هياج الدواب، ويتوجع لأجلها العقلاء، ففي كل قبيلة تجد الشيخ ملتزما بخدمة قبيلته وفق واجب التناغم مع (مفهوم الدولة الحديثة) باعتبار القبيلة أقدم مؤسسات التجمع الأهلي القابل للترقي ليكون تجمعاً مدنياً، وككل تجمع بشري تجد فيه من يثير النعرة كالذباب، يدخل أنوف بعض أبناء القبيلة بعيداً عن عين شيخها ونوابه (الرسميين)، فكأنما يحاول المزايدة على عقلاء القبيلة، أو الضغط عليها بمن دخلت أنوفهم النعرة، فتراهم يصرخون بهياج وإثارة، محاولين إخراج الحليم عن حلمه والحكيم عن تقاليد حكمته في التروي والتأني، والعجيب في الموضوع أنك تجد (ذباب النعرة) الكبير هذا يمسح يديه ببعضهما كما يفعل الذباب تماما ليكون في المجالس (الخاصة) أول المتحدثين بالنعرات، وفي المجالس (العامة) آخر المتحدثين بوقار مصطنع يستفتحه بالحمدلة والصلعمة، فلا هو يحمل شرف المقصد، ولا نبل الطريقة، فلا شيء سوى انتفاخ هذا الذباب بأنه يستطيع دخول بعض الأنوف، فيثير هذا ضد ذاك باسم خدمة القبيلة (وإبرازها بين القبائل)، ليتفاجأ العقلاء بالمصابين بداء (النعرة) وقد زايدوا حتى على شيخ القبيلة كي يضطروه أن يجامل ذبابة (النعرة) فيزايد مع المزايدين (المهايطين)، أو يمتلك الحكمة الكافية ليمنع عن قبيلته داء (ذباب النعرة)، فتكون قبيلته نموذجاً للمؤسسة الأهلية التعاونية المؤهلة لتكون جزءًا من دولة حديثة.
فالقبيلة إذا رفعت مناعتها ونظفت مجالسها من (ذباب النعرة) (كائناً من كان)، ستكون نموذجاً للتجمع الأهلي الراقي الخالي من طنين ذباب النعرة المؤذي، وليتخلصوا من كل السلبيات الحديثة للقبيلة التي ظهرت مع طفرة النفط والاقتصاد الريعي، فمما يعرفه العقلاء قبل زمن النفط أن المبالغ المالية التي تؤخذ من أفراد القبيلة تعاوناً على (البر والتقوى) تكون وفق نسبة وتناسب مع أملاك كل فرد، فمن يملك عشرين رأسا من الغنم لا تفرض عليه القبيلة قديما كما تفرض على من يملك مئة رأس، ومن عنده ثلاث قطع زراعية ليس كصاحب عشرين قطعة زراعية، بينما الآن وعند البعض يفرضون على الجميع باسم التعاون على (البر والتقوى) دفع مبلغ مقطوع يراه الغني زهيداً ويراه ميسور الحال ثقيلاً لو لا خوفه من (ذباب النعرة) أن يشهر به بين الناس، فتدفعه قلة الحيلة والخوف من التشهير أن يدفع رغم عجزه وضعف حاله، ليصبح التعاون في ظاهره (برا وتقوى) وفي باطنه (إثما وعدوانا) على مال الضعيف الذي لا يقاس بمال القوي، ولعل رؤية (2030) تساعد القبيلة على استعادة رشدها التكافلي القديم والأصيل وفق معطيات حديثة فلا (ضرر ولا ضرار)، والقواعد التي عرفتها القبيلة قبل زمن النفط تعين الناس على فهم الزمن الجديد القادم، ليكون التعاون على البر والتقوى ظاهراً وباطناً يفرح به جميع أفراد القبيلة سواء المقدور لهم والقادرون.
بقيت النعرة القومية/الوطنية، وبطل المشهد فيها للأسف (ذباب نعرة) يلبس ثوب المحلل الإستراتيجي والكاتب والمثقف والإعلامي، فيدخل في أنوف بعض الناس بشكل لا يراعي تقاليد الدولة الحديثة وأعرافها والتزاماتها، فتراه في المشهد اليمني ـــ مثلاً لا حصراً ـــ لا يفرق بين دخول دولته الحرب لأسباب سياسية أقرها المجتمع الدولي، ويتابعها النظام العالمي وفق أعرافه وشروطه التي يحاول العقلاء عدم الخروج عليها، وبين عقدة الإثنية العنصرية.
وأخيراً النعرة الدينية، وبطل المشهد فيها (ذباب نعرة) لا يعرف طريقاً للدعوة إلى الله والتذكير به إلا باستعداء المسلمين ضد بعضهم وضد العالم، فضد بعضهم بتقسيمهم إلى فرق في الجنة وفرق في النار، لترى (ذباب النعرة العقائدية) يصف الإرهابي الذي يفجر نفسه في مسجدٍ للشيعة بأنه (ضال) يجوز الدعاء له بالرحمة، بينما ضحايا المسجد (مشركون) لا يجوز الدعاء لهم بالرحمة، متناسياً أن رحمة الله أوسع من ثقب (نعرته العقائدية)، التي أصابت بعض الناس، فتراهم يزورون مكة كل عام مرات عديدة، ويعجزون أن يزوروا المدينة المنورة، ربما خوفاً من شبهة حرمة شد الرحال لزيارة (قبر النبي)!، وأشد النعرات ضرراً على المجتمع والدولة بالمعنى الحديث هي نعرة القبيلة التي تعطي المدد والأرض الخصبة للنعرة القومية، فالنعرة القومية في أصلها اعتقاد البعض أن الدولة مجرد قبيلة بحجم ضخم، وهي كذلك إذا أصبحت فيها السلطات الثلاث مفرغة من معنى (فصل السلطات) لصالح سلطة واحدة، وأما ذباب (النعرة الدينية) فباب لا ينتهي من العجائب منذ القرون الأولى لتجد فرقة من فرق الإسلام تجيز الترحم على من (استخدم السنان) في قتل الإمام علي، معتقداً أن سفك دم آخر الخلفاء الراشدين يقربه إلى الله، ولا تستطيع هذه الفرقة أن تتسامح مع من يرى خلاف رأيها في (المفاضلة باللسان) بين الخلفاء الأربعة، غافلة عن رؤية أصابع السياسة عبر التاريخ الإنساني في كل الديانات والمذاهب والتي رسمت خطوطا كثيرة من العقائد في هذا العالم الواسع.