أَعلم جيدا أنني في هذا العنوان استخدمت النسبة إلى الجمع، وهي طريقة غير مستحسنة عند أهل النحو، حيث لا يُصوِّبون النسبة إلى الجمع إلا سماعا، ولكنني أخذت هذه الصيغة من مقال كتبه أحد الأساتذة المغاربة واسمه الدكتور محمد آزرقان بعنوان: مشكلة الفكر السلفي، والتقييم العام للمقال أنه من جنس مئات المقالات التي تصدر عن السلفية بمختلف لغات العالم تحتوي على العديد من الانطباعات التي استقرت في ذهن الكاتب نتيجة قراءات مختزلة غير منهجية؛ أو استسلام عقلي للطرح الإعلامي المعادي للسلفية، والذي يعتبر اليوم سمة غالبة على الإعلام العالمي والعربي، بل والإسلامي أيضا.
فمعاداة السلفية غَدَت وَصيَّة مراكز البحوث العالمية: راند وكارنيجي ومركز مراقبة الجهاد ومعهد الشرق الأوسط للدراسات وغيرها؛ ومن الطبيعي أن تتأثر وسائل الإعلام جميعا بمثل هذه التقارير والتوصيات فَتُنتج سيلا من الكتابات والمرئيات لا لتُبرز الحقائق، بل لتُكوِّن رأيا عاما عالميا معاديا للسلفية، ومعلوم عند من له اشتغال بتوجيه الرأي العام أن التحقيق العلمي ليس شرطا في كسب الجماهير، بل تكرار الفكرة من مصادر متعددة يكفل ليس فقط تغيير القناعات، بل يتكفل أيضا بإحداث شعور عام موافق للطرح الإعلامي، حتى لدى المحايدين الذين لا يملكون عناية بالموضوع أصلا، وبذلك يتشكل سد يحول دون انتشار الرأي الذي تتعمد وسائل الإعلام محاربته لدى من يُصنَّفون بالفئة المحايدة أو الأغلبية الصامتة.
والمقال موضوع حديثنا هو من هذه النوعية، من المقالات الانطباعية، والتي لا تعتني بالغوص للبحث عن الحقيقة العلمية، بل تكتفي بالنقد السطحي، ولو فيما يناقض الواقع من أجل أن تكون ضمن المواد الإعلامية المكتوبة والمسموعة والمرئية التي يتم الحشد لها عمدا لتشويه السلفية.
فالمقال يبدأ باتهام الفكر السلفي بالآبائية، ويعني بها اتباع الآباء دون اعتبار للحق، ثم يؤكد زعمه هذا بأن شخصية مثل محمد بن عبدالوهاب وابن تيمية أصبحتا مقدستين، ثم لا يأتي بأي دليل على دعاواه وينتقل مباشرة لدعوى أخرى؛ وفلسفته هي عين فلسفة غالب المتصدرين لنقد السلفية «ارم التهمة وامض».
والحقيقة: أن الآبائية هي المشكلة التي نشأ التوجه السلفي من أجل القضاء عليها، وابن تيمية وتلاميذه -رحمهم الله- أوذوا وسُجنوا من أجل مناداتهم بالتجديد ونَفْرتهم من التقليد للقادر على الاجتهاد، وأصغر متابع للفقه التيمي يجده -رحمه الله تعالى- اعتنى بالدليل ولو خالف المذهب الحنبلي، بل لو خالف المذاهب الأربعة كلها، وفتواه الشهيرة في الطلاق خير مثال على ذلك.
أما اتخاذه مقدسا فالواقع السلفي يشهد بخلاف ذلك، فكليات الشريعة مثلا في المملكة العربية السعودية لا أعرف واحدة منها تتخذ من كتب ابن تيمية في الفقه منهجا دراسيا، وأشهر الكتب المنهجية في كليات الشريعة في السعودية هما كتابا «شرح منتهى الإرادات» و«الروض المربع»، كلاهما لمنصور بن يونس البهوتي المصري المتوفى سنة 1051هـ، ويُصَنَّف الكتابان على أنهما يحكيان مذهب المتأخرين من الحنابلة، وَيُحدد بعض الباحثين التاريخ الزمني لمذهب المتأخرين بأنه يبدأ من القرن التاسع الهجري، ويخالف متأخرو الحنابلة ابن تيمية في مسائل كثيرة وغزيرة، ابتداء من خلافهم معه في تقسيم المياه في أول باب من أبواب الفقه، وانتهاء بخلافهم معه في عتق المُدَبَّر في باب العتق، وهو آخر أبواب الفقه في ترتيب الحنابلة، ويكفي أن نعلم أن المسائل التي خالف فيها ابن تيمية المشهور من مذهب الحنابلة طُبِعت سنة 1430هـ في عشرة مجلدات وأصلها ست رسائل جامعية نُوقشت في جامعة الإمام محمد بن سعود.
كما أن كبار العلماء واللجنة الدائمة للإفتاء تخالف ابن تيمية في كثير من مسائل الفقه في أبواب العبادات والمعاملات والعقوبات والأنكحة.
ولك أيضا أن تستعرض الفتاوى الشرعية في المسائل العصرية التي جمع فيها الشيخ خالد الجريسي فتاوى علماء المملكة، لا لتسبر فقط المسائل التي يخالفون فيها شيخ الإسلام ابن تيمية، بل لتسبر أيضا المسائل التي يختلفون فيها فيما بينهم، بل والمسائل التي يخالفون فيها المعتمد من المذهب الحنبلي.
وكذلك الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- بالرغم من فضله المباشر بعد الله -عز وجل- على هذه البلاد وأهل العلم فيها، إلا أننا لا نجد فتاواه الفقهية مجموعة في منهج للجامعات أو ما دونها من مراحل التعليم، ولا نجد أنها مصدر الفتوى في الهيئات العلمية السعودية.
وقد كان أقطاب السلفية الثلاثة في حياتهم بينهم خلاف في الكثير من المسائل الفقهية، وأعني بهم: الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ محمد بن صالح العثيمين، والشيخ ناصر الدين الألباني، رحمهم الله، وجمع كثيرا منها الشيخ سعد البريك في كتاب من مجلدين اسمه: «الإيجاز فيما اختلف فيه ابن عثيمين والألباني وابن باز»، فقاربت الثلاثمائة مسألة، كلها يختلف فيها قول هؤلاء العلماء الثلاثة، واليوم نجد كثيرا من المسائل الفقهية تختلف فيها آراء العلماء وهي مشهورة بين الناس.
فالتقديس أو الآبائية: قول انطباعي لا يستند إلى أي دليل واقعي.
ثم يضرب المؤلف أمثلة للنيل من الفكر السلفي بشنشنة معتادة لا يختلف الكاتب فيها عن روبرت سبنسر ومن كان على شاكلته من الكتاب المخابراتيين الغربيين الذين يسعون جهدهم لإدانة الفكر السلفي عبر رميه بالتكفير والتقتيل، والجواب في هذه المسألة حاضر، فكل قادة الفكر التكفيري المعاصر لا تجد منهم سوى من لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة ممن درسوا في المدارس السلفية، وأما بقية قادة الفكر التكفيري فهم إما نتاج جماعات إسلامية حركية سياسية ليست لها علاقة بالفكر السلفي، سواء أكان في السعودية أم خارجها، وإما نتاج ظلم سياسي واجتماعي عربي وعالمي أدى بهم إلى هذا التوجه، وإما نتاج تدبير مخابراتي سوف تنكشف خيوطه عن قريب، لكنهم في كل الأحوال ليسوا نتاج المدرسة السلفية.
والحقيقة: أن هذه التهمة أصبحت ممجوجة جدا لدينا لكثرة ما سمعناها وكثرة ما تم الرد عليها باقتدار من قِبل العلماء والسياسيين والدعاة، ومع ذلك تظل تتكرر بالصيغة المرسلة نفسها، لأن مقصِد المتهِمين ليس السؤال عن الحق وإظهاره، بل المقصود غمطه وإخفاؤه، لأن معظم المناوئين المعاصرين للسلفية -والكاتب واحد منهم- يعلمون جيدا: أنه لا يوجد مبتلى بالتكفير والعدوان في المغرب العربي أو في أوروبا درس على كتب علماء السلف، بل العكس هو الصحيح، فمعظمهم -إن لم نقل كلهم- متخرجون من مدارس علمانية، ومن هنا فإن البحث الجاد عن الحقيقة كان يقتضي البحث عن السبب الحقيقي وراء انحراف هؤلاء والذي لا أخاله إلا السياسات الدولية المعادية للإسلام في أرضه، والصمت الدولي عن الجرائم التي ترتكب ضد المسلمين، لكن لا نجد هناك جدية في بحث هذه الأسباب، والجدية الواضحة هي فقط في تحميل السلفية وزر ما يحصل في العالم ولو عن طريق تكرار التهم المرسلة حتى يصدقها الناس.
ومع القول بسعة صدر السلفية بالخلاف الفقهي المبني على الأدلة وطرائق الاستنباط الصحيحة في داخلها، إذا لم يكن المراد منه الإخلال بالنظام العام، أو تفريق الصف أو التعالم وازدراء الآخرين، مع سعة صدرها بهذا النوع من الخلاف، إلا أنها في داخلها أيضا لا تقبل الخلاف في أصول الدين من توحيد لله تعالى بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته وأركان الإيمان، لأن كل ذلك ثابت بنصوص قطعية الثبوت والدلالة، فلا تقبل النقص فيها ولا الزيادة عليها ولا صرفها عن معانيها بتأويلات لا تطيقها لغة العرب التي نزل بها القرآن، وليس اتفاق السلفيين في جانب العقيدة ناشئا عن آبائية وتقليد كما يقول الكاتب، بل ناشئ عن قطعية الأدلة فيها بحيث لا يمكن تفسير الخلاف فيها إلا على كونه انحرافا عن النص، وهذا ما لا يمكن للسلفية المداهنة فيه ووصفه بغير كونه انحرافا.