تتجه الحكومة إلى رفع الدعم عن السلع والخدمات واستبدالها بالتعويض النقدي للمواطنين عبر برنامج حساب المواطن، وذلك بناء على حجم الأسرة وإجمالي دخلها وعلى معدل الاستهلاك الطبيعي. ويدفع الحكومة إلى ذلك سببان، الأول مالي، وهو الحاجة إلى توليد إيرادات إضافية مع القناعة بعدم مقدرة الحكومة على الاستمرار في تقديم الدعم للجميع دون الإخلال بأولوياتها الأخرى. والثاني اقتصادي، وهو تخفيض معدلات الهدر والدفع نحو الاستهلاك الرشيد عبر منع حدوث الظاهرة السلوكية التي يعبر عنها الأشقاء المصريون بـ «أبو بلاش كتّر منه».
نموذج الدفع النقدي خيار جيّد، بسبب تميّزه عن النظام الحالي في أنه قابل للتوجيه لشرائح دون أخرى وبمقادير مختلفة، ولأنه يدع للمواطن الخيار في تعديل مكونات إنفاقه. إلا أنه بالرغم من تميّز هذا النظام من حيث المبدأ، فإنه كبقية النُظم ليس خاليا من المثالب، والتي يمكن التقليل من أثرها إذا ما دُرست واعتُني بها. في هذا السياق وفي ظل المعلومات غير النهائية للبرنامج، أناقش 3 نقاط.
ترتبط النقطة الأولى بتقسيم الأسر إلى 5 شرائح دخل. فبينما لا يوجد تفاوت كبير بين الشريحة الواحدة للشرائح الأربع الأدنى، فإن حجم تفاوت الدخل للشريحة العليا مرتفع جدا. فالشريحة الدنيا تبدأ عند الحد الأدنى للأجور ومنظومة الضمان الاجتماعي، ثم تأتي الشرائح الوسطى، إلى أن تبدأ الشريحة الأخيرة التي تنتهي عند أغنى أسرة في المملكة. ولفهم المشكلة، ننظر إلى المثال التوضيحي لحساب المواطن. إذ تدخل الأسرة ذات الستة أفراد في الشريحة الأغنى عندما يصل دخلها إلى 20,160 ريالا، مما يساويها بأخرى دخلها 100,000 ريال. ويظهر لي أن الأسر التي تقع في مطلع الشريحة الخامسة تمثّل الصورة المادية المثالية والقابلة للتحقق لمن يبذل الجهد الكافي من الشباب والشابات، ولذلك فإنه ينبغي الحفاظ على رخائها أيا كان مقدار دخلها الحقيقي.
أما النقطة الثانية فتتعلق بمنظومة الحوافز التي ستنتج عن البرنامج وتفاصيله، وأثرها على سلوكيات الناس. على سبيل المثال، قد تصبح الخطوط الحاكمة لانتقال الأسرة من شريحة إلى أخرى نقاط مقاومة تحذر الإنسان من تجاوزها، مما قد يخفّض الإنتاجية. ففي مهمة في أحد المنشآت البريطانية، كان عقد إحدى الموظفات ينص على توظيفها لمدة 19 ساعة في الأسبوع، وكانت تقوم بأعمال ذات مردود عال للمنشأة يمكن تطويرها إذا ما قمنا بتوظيفها لساعات إضافية، وهو ما قمنا بعرضه. إلا أن السيدة رفضت العرض. وتبيّن لي أنها لا تريد تجاوز عدد ساعات ودخلا معينا حتى لا يؤثر ذلك على الإعانات التي تحصل عليها. وبالنظر إلى المثال التوضيحي للبرنامج، فإنه ليس من المجدي للمواطن الانتقال من الشريحة الرابعة إلى الخامسة ما لم يترتب على ذلك زيادة في الدخل تفوق الألف ريال شهرياً. ولذلك فإنه ينبغي محاكاة وفهم السلوكيات التي ستنتج عن البرنامج ككل، وتلك التي تنشأ عن تفاصيله.
أما الأمر الأخير، فهو آلية حساب معدل الاستهلاك الرشيد، والتي يبدو أنها ستُبنى على افتراضات ترتبط بحجم الأسرة ومقدار دخلها. بيد أنه لا يمكن الحكم على مدى رُشد الاستهلاك، دون النظر إلى اعتبارات تتجاوز حجم الأسرة ومقدار دخلها، مثل درجة حرارة المدينة ومساحتها والحالة الوظيفية لأفراد الأسرة وغيرها من المتغيرات. كما أن تحول الفرد من الاستهلاك الجائر إلى الاستهلاك الرشيد قد يتطلب ما هو أبعد من تعديل السلوكيات إلى بعض الاستثمارات، مثل العزل الجيد وتغيير نوع السيارة، وهو ما ينبغي تحفيزه ودعمه خلال مرحلة التحول.
في ظل النقاط السابقة، قد يرى القائمون على البرنامج دراسة المقترحات التالية:
1 - أن يكون التسجيل في البرنامج إلزاميا، للحصول على معلومات دقيقة. ذلك أنني أظن أن العينة الحالية ليست عشوائية، وأن دخلها متحيّز للأسفل، مما يؤثر على الخطوط الفاصلة بين الشرائح. إذ يظهر لي أن هناك دافعا لدى الأفراد لتخفيض دخولهم، كما أن احتمالية عدم التسجيل ترتفع لدى المواطنين الذين يعتقدون أنهم لن يحصلوا على الدعم.
2 - زيادة عدد شرائح الدخل، وذلك لتقليل أثر الانتقال من شريحة إلى أخرى وللتمييز بين الأسر مرتفعة الدخل والأسر الثرية.
3 - دراسة تأثير تفاصيل البرنامج على سلوكيات الأسر. مثلا، لو قررت الحكومة استثناء القروض الاستهلاكية من الدخل، فإنها تحفّز رفع الاستهلاك بالديون، فيما لو قررت استثناء القرض العقاري الأول للأسرة فإنها تحفّز وتدعم المواطن لشراء مسكنه الأول.
4 - تعزيز معادلة الدعم بالمزيد من المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية لأفراد الأسرة الواحدة. مثلا، من الممكن زيادة الدعم لأسرة المرأة المستقلة في ظل عدم تمكنها من القيادة، أو خفض الدعم عن الأسر التي تعيش في مدن باردة.
ختاما، ليس من المبالغة القول أن برنامج حساب المواطن - برؤيته المستقبلية التي تنص على شموله دعوم السكن والصحة والتعليم، بالإضافة إلى إصلاحات برنامج التحول الوطني - سيقوم بإعادة رسم شكل المجتمع السعودي وشرائحه، وذلك عن طريق التأثير المباشر أو عن طريق تغير السلوكيات، ولذلك فإنه من الضروري أن يصمم وينفذ بعناية. وأجد نفسي متفائلا بسبب الجهود الحثيثة التي نلمسها من القائمين على المشروع، نسأل الله لهم التوفيق والسداد.