في مدينة المهجر، وفي حفل زواج ابن أثير، عدت فالتقيت بذاكرة الصور البصرية من أصدقاء الطفولة وأقارب الدم الذي تجمد مع الزمن عند زمن، ومع وشائج تلك القرى المتجاورة التي كانت شعابها وأوديتها تفعل ما بيننا من الارتباط والحب ما لا تفعله اليوم شرايين الأذين والبطين حتى في الجسد الواحد. يقول لي ابني الأكبر في جملة عفوية ولكنها كل الاختصار: كيف تستطيعون يا أبي أن تتعرفوا على بعضكم البعض بهذه السرعة المذهلة بعد ثلاثين أو أربعين سنة من الغياب وقد تغيرت فيكم كل ملامح التكوين وشاخت الوجوه. هو لا يعلم بالطبع أساطير طفولة القرى ولا سحر صورها البصرية المجردة، وكم ضحك وأنا أقول له إنني سأعرفهم مرة أخرى ولو في «فيمتو» من الثانية، حتى ولو كانوا مجرد جلود قائمة على هيكل عظمي. هؤلاء يا ابني رفقاء صغر التكوين الأولي الأزلي في الحقل و«الصمعة» والفصل وملعب «الصعيدة» الخالد في كل ذاكرة تلك الأجيال من أبناء تلك القرى المتناثرة من حوله قبل اختطاف مدن الشمال وفيافي المهاجر.

نستطيع يا بني أن نتعرف على بعضنا البعض بسرعة الضوء لسبب بسيط: لأن ذاكرة الحواس الخمس في أيامنا الأولى القديمة كانت فقيرة وخالية من الزحمة. في سنواتي العشر الأولى، يا بني، لا أعرف من غير أبناء هذه القرى المتجاورة حتى ولو وجهاً واحداً من خارج هذه الذاكرة، كنا تسعة أطفال فقط من الأولى الابتدائية حتى نهاية الابتدائي. سأذكر لك يا بني شيئاً قد لا تصدقه: كانت حاسة الشم لدينا تستطيع حتى التعرف إلى رائحة الخبز الحافي في «مخلاة» كل طالب بالصف. هذا خبز أمي «مطرفة» وذاك خبز عمتي «زهبة» تحت إبط ابنها الأصغر عمك سعيد. لم يكن بتلك القرى على الإطلاق يومها حتى قارورة عطر واحدة تعيق مزاج الشم. ودعك من الصوت يا بني فالسمع في هذه القرى أسطورة إحساس مختلف، كنا يومها تلقائيا قادرين بالفطرة على تحديد «خوار» كل بقرة وأي ثور بالقرية، فهذا صوت ثور فلان وذاك لبقرة فلانة. اليوم يا بني «تشابه البقر لدينا» حتى لم نعد نستطع تمييز أصوات بعضنا البعض حتى ولو كنا داخل سيارة واحدة. كانت الأغنام يا بني ترد عائدة للقرية من مدخلها الشمالي مثل السيل، وكان لها ثغاء يشبه الرعد.

 كنت محظوظاً كطفل أن أهلي وأعمامي لا يحبون الزراعة والماشية، ولهذا اكتفينا منها بدرزن، وكان يومها لكل شاة اسمها الرسمي وكأنها مسجلة ببطاقة أحوال. كنت أتعجب من بعض القرناء في القرية الذي يحفظون أسماء أغنام أهلهم بالمئات، اليوم تتعجب يا ولدي: كيف أعرف هؤلاء بعد هذا الغياب. الجواب بسيط، هم مهبط الذاكرة. قرى قدرنا فيها السير وأيام لن تعود.