منذ القرن التاسع عشر تعددت المحاولات الرامية إلى توحيد أوروبا، وكان منها محاولة نابليون بونابرت، ومحاولة أدولف هتلر في أربعينات القرن العشرين. وهما محاولتان مهمتان لم تتمكنا من الاستمرار إلا لفترات قصيرة وانتقالية. وذلك لاعتمادهما على الإخضاع العسكري للأمم الرافضة للخضوع لمتطلباتهما.

وقد ازدادت بشدّة بعد كوارث الحربين العالميتين الأولى والثانية، ضرورات تأسيس ما عرف فيما بعد باسم الاتحاد الأوروبي. مشفوعة بالرغبة في إعادة بناء أوروبا، ومن أجل القضاء على احتمال وقوع حرب شاملة أخرى.

ووضع وزير الخارجية الفرنسي روبير شومان، في التاسع من مايو 1950، أول حجر في البناء الأوروبي عندما اقترح على ألمانيا بعد خمس سنوات فقط على استسلامها في الحرب العالمية الثانية، تحقيق تكامل في الإنتاج الفرنسي الألماني للفحم والفولاذ في إطار منظمة مفتوحة لكل دول أوروبا.

ووقعت اتفاقية باريس التي نصت على إنشاء «مجموعة الفحم والفولاذ» في 18 أبريل 1951، وولدت بذلك أوروبا «الدول الست» (ألمانيا وبلجيكا وفرنسا وإيطاليا ولوكسمبورغ وهولندا).

وفي 25 مارس 1957، وقعت الدول الست المعاهدة التأسيسية لأوروبا السياسية والاقتصادية. وقد أسست المجموعة الاقتصادية الأوروبية السوق المشتركة القائمة على التنقل الحر مع إلغاء الحواجز الجمركية بين الدول الأعضاء.

وانضمت في يناير 1973، بريطانيا والدنمارك وأيرلندا إلى السوق الأوروبية، تلتها اليونان (1981) وإسبانيا والبرتغال (1986) والنمسا وفنلندا والسويد (1995).

وتمثل اتفاقية روما لعام 1957 التي طبقت في 1 يناير 1958. العماد الأول للاتحاد الأوروبي الذي تطور من جسم تبادل تجاري إلى شراكة اقتصادية وسياسية، بناء على اتفاقية ماستريخت الموقعة عام 1992.

ويتكون الاتحاد الأوروبي من 27 دولة، منها 7 دول ملكية و20 دولة جمهورية. وثمة دول مرشحة لعضوية الاتحاد، هي: تركيا وكرواتيا وجمهورية مقدونيا. و19 دولة أخرى لا تسعى للانضمام، منها: ألبانيا والبوسنة والهرسك وأيسلندا وليختنشتاين واندورا والنرويج وصربيا وسويسرا.

ومنذ عام 1993 حددت شروط للانضمام للاتحاد تُعرف باسم شروط كوبنهاجن، وهي: شروط سياسية: على الدولة المترشحة للعضوية أن تتمتع بمؤسسات مستقلة تضمن الديمقراطية وعلى دولة القانون وأن تحترم حقوق الإنسان وحقوق الأقليات. وشروط اقتصادية: وجود نظام اقتصادي فعال يعتمد على اقتصاد السوق وقادر على التعامل مع المنافسة الموجودة ضمن الاتحاد. وشروط تشريعية: على الدولة المترشحة للعضوية أن تقوم بتعديل تشريعاتها وقوانينها بما يتناسب مع التشريعات والقوانين الأوروبية.

لكن تبني 17 دولة فقط من أصل الـ27 الأعضاء استخدام «اليورو» كعملة واحدة أحدث الانقسام بين دول منطقة «اليورو» ودول منطقة «اللا يورو» (من دولها: الدنمارك وبريطانيا والسويد). فضلاً عن الانقسامات بين دول منطقة «اليورو» نفسها.

وتعمق الانقسام بإعلان المملكة المتحدة عن انسحابها من الاتحاد الأوروبي (بريكست) تلبية لنتائج تصويت شعبي.

ومنذ عقد ما زالت البطالة مرتفعة في الاتحاد، والنمو بطيء نتيجة الأزمة المالية في 2007 و2008، ثم أزمات ديون دول الجنوب التي تصدت لها المفوضية الأوروبية بوسائل تقشفية أثارت نقمة شعبية، وفي 2015 كادت اليونان تخرج من منطقة اليورو.

ولعل تقدّم اليمين المتطرف في فرنسا وألمانيا بفقدان الاتحاد عموده الفقري، وقد تتصاعد نزعة التشكيك في الوحدة، ويكشف موضوع الهجرة واللاجئين عن انقسامات وخلافات تدعم هذه النزعة.

وشهدت روما احتفالات الذكرى الستين للمعاهدة المؤسسة للاتحاد الأوروبي في ظل رزمة تحذيرات أطلقها قادته وخبراء تفيد بأن الأزمات المتكررة للاتحاد الأوروبي تشكل تهديدا «وجوديا» له. فقد قال رئيس البرلمان الأوروبي انتونيو تاجاني عشية الاحتفال في روما بالذكرى الستين للمعاهدة المؤسسة لهذا التكتل إن «المشروع الأوروبي لم يبد يوما بعيدا عن الشعب كما هو اليوم».

وأقر رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر بالحالة المتردية التي بات عليها الاتحاد الأوروبي، حين قال «لم أر مثل هذا التشرذم ومثل هذا التراجع في التوافق في اتحادنا»، واعتبر أن أوروبا تمر «بأزمة وجودية».

ويرى شتيفان ليني الباحث في المركز الفكري «كارنيغي يوروب» أن «ما تغير هو أننا لا نواجه أزمة واحدة كبرى، بل مجموعة أزمات خطيرة جدا ومعقدة. ولم نعد نضمن أن يخرج الاتحاد الأوروبي من هذه الأزمات في 2017 و2018». بينما قال ليني الدبلوماسي النمساوي السابق إن الاتحاد الأوروبي سينجو، على الأقل كسوق واحدة، بفضل «الأسس الاقتصادية المنطقية التي يقوم عليها»، لكنه أقر بأنه يفكر في بعض الأحيان «بالإمبراطورية الجرمانية التي استمرت قرونا قبل أن تموت سياسيا».

ويذكر فريديريك المان الباحث في الدراسات الأوروبية في جامعة لوكسمبورغ بأزمات أخرى من سياسة المقعد الفارغ التي اتبعها الجنرال ديغول في 1965-1966 إلى الانضمام المتأخر للمملكة المتحدة في سبعينات القرن الماضي على خلفية الصدمة النفطية والأزمة النقدية. وقال «لكن الأزمات التي نواجهها اليوم تمس بالمعنى العميق المشروع الأوروبي». وأضاف «بالتأكيد ما زال السلام هو الإطار الرئيسي لكن بمعزل عن ذلك، أي نموذج اقتصادي واجتماعي نريد في أوروبا».

ورأى الخبير السياسي في جامعة غاند هندريك فوس أنه سيكون من الصعب تحقيق قفزة كبرى، لكن العودة إلى الوراء مستبعدة. وقال إن «قادة جميع الدول الأعضاء يدركون جيدا أن ما بني في السنوات الستين الأخيرة بدءا من السوق الواحدة وشينغن، وصولا إلى منطقة اليورو، أتاح مستوى المعيشة المرتفع الذي نشهده في أوروبا اليوم».

وسبق لفريد زكريا رئيس تحرير الطبعة الدولية لمجلة «نيوزويك»، أن شخصا في مقال في صحيفة «الواشنطن بوست»، نشر في عام 2011، أزمة الاتحاد الأوروبي بأنها من حيث الجوهر هي «أزمة نمو، لذلك تحتاج أوروبا إلى أجندة نمو، تنطوي على تبني إصلاحات جذرية، فالاقتصادات الغربية مع ارتفاع الأجور، والإعانات السخية للطبقة المتوسطة والسياسية، والأنظمة المعقدة والضرائب أصبحت متصلبة، وتواجه ضغوطا من ثلاث جبهات: الديموغرافيا (شيخوخة السكان)، والتكنولوجيا (التي تسمح للشركات أن تفعل الكثير من العمل مع عدد أقل من الناس) والعولمة (التي سمحت للشركات والخدمات باختيار مواقعها المناسبة في جميع أنحاء العالم)».

وإذا لم تستطع أوروبا أن تتكيف مع هذا المشهد الجديد، ولاذت بأسوار وأعمدة الشعبوية، فإنها قد تنجو من عاصفة من عواصف أزمات أخرى. وتكرار العواصف سيعرض البيت الأوروبي للانهيار.