خديجة، هي سيدة من بلادنا ابتُليت بزوج مدمن. تقول إنه دخل عليها يوما في سكرته مع أصحابه محاولا تمكينهم منها، فألقت المسكينة بنفسها من نافذة الدور الثالث.

هذه القفزة للنجاة بشرفها، تركتها مقعدة وسجينة للكرسي في عز شبابها. مُعنّفها المريض لم تتم محاسبته كما ينبغي . حاولت خديجة إثبات حقها وتصعيد القصة، بالتوجه إلى بعض وسائل الإعلام ورفع صوتها، لكنها للأسف لم تفلح .

تعرضت خديجة مؤخرا لسكتة قلبية، انتهت على إثرها حياتها «رحمها الله»، وها هي الآن ترقد وحيدة في قبرها، ولن تكون قصتها هي الأخيرة، وإن كنا نتمنى ذلك، وندعو به عقب كل صلاة.

خديجة -رحمها الله- هي سيدة أخرى من المعنّفات تفقد حياتها ويهزمها ضعفها وقلة حيلتها، بينما يقف المجتمع عاجزا عن مساعدتها وصونها، والسبب المباشر في ذلك هو غياب القوانين التي تحمي المعنّف ضعيف الحيلة من الإساءة، سواء كان المسيء هو الأب أو الأم أو الأخ أو الزوج، أو أي شخص تسول له نفسه الإساءة إلى من ولاه الله أمرهم.

لا أدري، هل زادت هذه المصائب مؤخرا، ولم تعد حالات فردية لأشخاص مشوهي الإنسانية؟، أم أن سهولة وصول المعنفين إلى الإعلام وإتاحة النشر جعلتنا نرى ما كان يتم إخفاء بعضه سابقا لنصحو على فيل في الغرفة كما يقال؟

لم يعد من المقبول دينيا ولا إنسانيا أو حضاريا السكوت عما يحصل. إن غياب القوانين أو غياب العمل بها، يؤثر على المجتمع ويوسع رقعة العنف، فالمعنَّف «الحالي» يمهّد الطريق لمشروع المعنّف الذي يقفُ مراقبا ومتصيدا للثغرات في العقوبات، فيتجرأ على تعنيف مَن هم تحت يده، لتستمر دائرة العنف في النمو والتوسع، وتصبح هي القاعدة وليست في حكم الشواذ.

لمى وشهد وخديجة وسارة وغيرهن، لسن شخصيات وهمية، وقصصهن ليست من نسج الخيال، بل هن بشر من لحم ودم، عشن بيننا، وانطفأت شموع حياتهن مبكرا على أيدي أشخاص مرضى!

نعرف أن الشرع والقانون لا يرضيان ذلك، ولكن لا بد من دعم المعرفة بالعمل، كي نردم هذا الصدع ونخرج من هذا المستنقع.

إذا لم يقلقنا عدد ضحايا التعنيف، أو يوقظنا عدد الفتيات الميتات من غفلتنا، وينبهنا إلى عدم فاعلية بعض الأنظمة المعمول بها حاليا، فأي شيء سيبعث العقل في هذه الأجساد من غفلته؟

لا أدري، هل يدرك الساكتون عن تفشي العنف أن عدد السيدات الهاربات لأسباب مختلفة، منها العنف أو الحرمان من بعض الحقوق المشروعة كالتعليم والعلاج

والزواج والوظيفة، في ازدياد، وأن بعض هؤلاء السيدات اضطررن إلى أمور لايحمد عقباها !!

هذه الحالات كان من الممكن احتواؤها ومعالجتها، لو تدخل القانون بالشكل المناسب والمأمول .

من المؤلم كذلك أن بعض هؤلاء الفتيات تحولن إلى خندق مهاجمي الوطن، فهو من وجهة نظرها أتاح لمعنّفها فرصة التحكم في حياتها، ولم يساعدها على تحقيق الحياة الكريمة والوصول إلى أهدافها.

الأخطر، أن بعض هؤلاء الفتيات يستخدمن الأحداث التي تحصل لغيرهن، لخلق صدامات بين الأجهزة الحكومية المحلية والمؤسسات الدولية المعنية، فقد انتشر مؤخرا مقطع لشابة تبكي فيه على خديجة وتنادي لإنقاذ المرأة مما هي فيه، ولا يخفى على أبسط باحث اجتماعي خطورة هذا التوجه في خلق فتنة، خصوصا في عقول النشء الذي يشاهد مثل هذه المقاطع ولا يعي ما وراءها.

المجتمع كله، والمرأة السعودية تحديدا، يريدان ردّ هذه الفتنة واستيعاب هذه الأزمة، وتنظيم القوانين الخاصة بذلك، ووضعها حيز التنفيذ، ومراقبة تنفيذ ها من قبل الجهات المعنية ، حفظا لهيبة الدولة، وتحقيقا للأمان الاجتماعي والنفسي.

لا بد من إغلاق هذه الملفات بحل الأزمات لا بإخفاء الحقائق، لنوقف حلقات نشر الغسيل التي يقوم بها البعض ردا على جنون وعنف البعض الآخر، وقلة حيلة الضحايا بالتعامل الصحيح معها.

عندما أخذ سيدنا إبراهيم -عليه السلام- زوجته وابنها الرضيع إلى واد غير ذي زرع،

وهمّ بتركهما هناك، سألتهُ قائلةً: «آللهُ أمركَ بهذا؟»، فكانت إجابته -عليه السلام- بالإيجاب كفيلةً بطمأنتها ونزع الخوف من قلبها، فقالت بلغة واثقة: «إذن لا يضيّعنا».

تذكرت هذا اليقين وأنا اقرأ الأسئلة التي تركتها لنا خديجة، فقد تساءلت خديجة قبل وفاتها: «هل يرضي الله ما حدث لي؟ هل أنا سيئة إلى هذه الدرجة؟».

لا والله يا خديجة، لا يرضاه سبحانه وهو القائل: «لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلِم وكان الله سميعا عليما».

أدرِكوا ما يمكن إدراكه، ولا تتركوا المجال لمطرقة التعنيف وسندان الاتهامات للعبث بسمعة الوطن، واسعوا إلى توفير الحياة الكريمة للأجيال القادمة من أبنائه وبناته.