في نقاش جمع اثنين من أهم الفيزيائيين في العصر الحديث، وهما رذرفورد، وتلميذه تشادويك الذي كان يسعى إلى إيجاد دليل على وجود النيترون، قال رذرفورد: «كيف يمكنك العثور على الرجل الخفي في زحام مرور ميدان بيكاديلي الشهير في لندن؟» ثم استأنف مجيبا عن نفسه: «بملاحظة رد فعل الناس الذين ينحيهم جانبا عند مضيه في طريقه»!
لعل هذا من أبرع العبارات المجازية الشارحة لإحدى ركائز المنهج العلمي، وهي الاستعانة بالاستدلال السببي عندما تقصر الحواس عن إدراك بعض (الظواهر) كما في حالة النيترون على سبيل المثال.
تعلمت البشرية منذ وقت طويل أن مدخلات الحواس يمكن تزييفها، وما أكثر ما يُخدع البصر والشم بل وكذلك اللمس. وعرفت بشكل حدسي أن للاستدلال العقلي فائدته في جني المكاسب والحماية من الأخطار.
والاستدلال العقلي يقوم بالدرجة الأولى على الربط بين الأثر والسبب. وربما لذلك نجد أن كلمة Reason في اللغة الإنجليزية تعني العقل، كما تعني السبب أيضا، وربما لهذا نظائره في لغات أخرى كذلك.
الإدراك السببي خصيصة تميز بني البشر بأكثر من وجه. قد يجفل قطيع من البهائم عند سماع صوت عال، وقد يسرع في الهرب أيضا، ولكنه لن يلتفت أو يأخذه فضوله لمعرفة مصدر الصوت أو طبيعته. يشير البيولوجي (مايكل دنتون) إلى نحو هذا بقوله «يلحظ الشمبانزي سقوط الثمار بعد أن تهزها الرياح ويهرع لالتقاطها، ولكنه لا يفكر إطلاقا بمحاكاتها بهز الشجرة ليصل إلى النتيجة نفسها، ولكن الإنسان يفعل هذا».
اكتسب البشر هذه الخصيصة فمكنتهم من استعمال اللغة وصنع الأدوات البسيطة ثم إنشاء هذه الحضارة الكونية. ولكن هل اكتسابنا سمة الإدراك السببي خلا من أعراض جانبية ذات أثر سلبي؟
أجرت (إيلين لانغر) عالمة النفس الاجتماعي تجربة ظريفة قد تساعدنا في كشف ذلك. حيث كانت تطلب معروفا صغيرا من أشخاص يقفون في صف لاستعمال آلة تصوير الأوراق في مكتبة عامة. «عفوا، لدي خمس أوراق، هل أستطيع استعمال جهاز التصوير، لأنني في عجلة من أمري؟». كانت النتيجة فعالة، حيث قبل 94% منهم أن تتجاوز دورهم. بينما كانت النتيجة لا تتجاوز 60% عندما استخدمت الصيغة: «عفوا، لدي خمسة أوراق، هل أستطيع استعمال جهاز التصوير؟». قد يبدو أن النسبة ارتفعت بسبب المعلومات الإضافية المتضمنة في «لأنني على عجلة من أمري»، ولكن الخطوة الثالثة من التجربة بينت خلاف ذلك! كانت الصيغة الثالثة التي استعملتها هي: «عفوا، لدي خمسة أوراق، هل أستطيع استعمال آلة التصوير، لأني أريد أن أصور بعض النسخ؟» لم تزد لانغر في صيغتها سوى إعادة ما هو واضح أصلا، ولكن النتيجة قفزت مرة أخرى إلى 93% دون أن يكون هناك سبب حقيقي تتضمنه الجملة التي أوردتها بعد كلمة (لأن)!
إذن فالسر لا يوجد في سلسلة الكلمات وما تعنيه في الحقيقة، بل في مجرد سماع الكلمة السحرية (لأن). هذا يعني أننا بقدر جاهزيتنا الأصلية لإدراك الأسباب نكون أيضا معرضين للتفاعل مع الإيحاءات الوهمية المتنكرة على شكل أسباب. تذكر كم مرة تساءلت عن ارتفاع ثمن سلعة مقارنة بسلعة تشبهها على الرف نفسه، ثم اقتنعت بمجرد أن استعمل البائع إجابات نمطية لم تقدم لك أي معلومات جديدة! يكثر أهل المنطق كلامهم عن مغالطة شائعة يستعملها الخطباء والكتاب، وهي رغم شيوعها فجة جدا إلى الدرجة التي لا يصدق المرء أنها تنطلي على أحد بسهولة، وهي مغالطة (المصادرة على المطلوب)، وتعني أن يدلل المرء على صحة نتيجته بإعادتها مرة أخرى على شكل علة توصل بها إلى تلك النتيجة، كأن يقول أحدهم «فلان عالم كبير، لأن لديه علما وافرا» أو «يجب علينا أن نتصدى لخطر ظاهرة الاختلاط لأن التصدي لأخطارها من واجباتنا». هكذا تكون العبارة من شقين لهما المعنى نفسه ولكن يتم الإيحاء بأن إحداهما علة للأخرى. تأخذ هذه المغالطة بعدا أكثر تأثيرا عندما تتكون من عبارات طويلة متشابكة تكرر نفسها، وكذلك عندما تكون في أجواء خطابية عاطفية، أو أن يستعملها من لديه بعض الوجاهة لدى سامعيه. من شأن ذلك كله أن يتسبب في خفوت الحس النقدي لتنجح هذه المغالطة في الوصول إلى الـتأثير المطلوب. ولكن الدور الأبرز في ذلك لعبه تجهيزنا الغريزي الذي كشفت عنه تجارب لانغر. من الجيد أن نعيش شاكرين لقدرتنا الفطرية على تمييز العلاقات السببية، ولكن ربما علينا أيضا أن نكون أكثر حذرا، فنحن أحيانا نندفع لأننا فقط نبحث عن سبب.. أي سبب!