منذ أن قال شيخنا الحكيم زهير بن أبي سلمى: «وقفت بها بعد عشرين حجة/ فلأيا عرفت الدار بعد توهم». والمكان ما زال عنصرا ملتصقا بالإنسان، يسجل بصمت مآثره وأمجاده، أو إخفاقاته وانكساراته على السواء، بل إن ثمة علاقات سرية من الحنين والألفة تنشأ بين الإنسان ومكانه الخاص.

ولكن الذي يحدث في لحظة مؤلمة: خيانة المكان لصاحبه، عندما تتفرغ جدرانه من أي أثر يدل على إنسان مر بعمق بين رحابه، ولا شك أن تلك الخيانة تكون من خلال وسيط إنساني آخر تعمدا أو تصنعا أو إهمالا، أو لأية أسباب أخرى ممكنة!!

ينتابني شعور بمرارة موت تلك العلاقة الجدلية بين الإنسان والمكان، عندما يتعلق الأمر بإنسان ظل في مكان ما، عمرا مديدا، ينثر فيه أعمالا وإنجازات فاعلة وتاريخية ومستمرة الأثر في الأجيال الإنسانية القادمة، ثم تقرر عليه النظم الإدارية أن يغادر مكرها، لا يجد أحدا من قريب أو من بعيد، يوثق ذلك الحضور الإنساني الجليل بين أروقة المكان، الذي أفنى فيه ثلث أو نصف عمره!.

وأكثر ما ينتابني ذلك الشعور (المر) في أماكن تتعلق بالعلم والمعرفة كالمدارس والجامعات مثلا..

فالمنظومة التعليمية لدينا لا تعطي هذا الجانب الإنساني الحضاري أدنى اهتمام، من أي شكل كان! فالذين يمرون بمدارسنا كثير (جدا) من مديرين وإداريين ومعلمين وطلاب، خلال العمر الزمني لتلك المدارس، والذي ربما يمتد لبعضها، مقاربا (الأربعة) عقود من الزمن، ولكنهم يمرون جميعا بلا شاهد أو دليل يوثق حضورهم الفاعل خلال تلك السنوات الطوال!

أعرف مديري مدارس قضوا في مدارس تولوا إدارتها عشرين عاما متواصلة، اعتبروها كبيوتهم، فصرفوا عليها من دماء قلوبهم الكثير، ليبنوا ملحقا هنا، أو مظلة للطلاب هناك، أو لعمليات الصيانة التي لا تنتظر غالبا الدعم المادي من الوزارة المبجلة.

أتذكر في هذه الأثناء مديرا -صادفني لحسن ظني في أول مشواري الوظيفي- تراكمت ديونه المالية بسبب إخلاصه المنقطع النظير لكل ما يتعلق بمدرسته/ الحلم، لتصل لرقم يعجز على المرء استيعابه، ولكنه حدث بالفعل، كما كان يحدث دائما أن يأتي إلى المدرسة بعد صلاة الفجر مباشرة، ولا يغادرها إلا بعد العصر بساعة أو نحوها. هذا المدير الذي قاد مؤسسة تعليمية عريقة في مدينة الطائف عشر سنوات كاملة، غادرها مكرها بتوصية من مشرف شاب، صادفت زيارته الميمونة حدثا (سلبيا) مفاجئا، ومنذ ذلك الوقت انتهت علاقة الأستاذ (العبادي) بمكانه الحميمي، حتى إن زائرا ربما جاء إلى هذه المدرسة بعد الحادثة بشهر واحد فقط، وخرج ولم يأت على مسمعه أو نظره أو إلى وعيه أي خبر عن الذي قاد شؤون هذا المكان، إلى قبل شهر واحد فقط، منذ عشر سنوات مفعمة بالعمل والتعب والتربية والتعليم، زاخرة بأطياف الصدق والوفاء والإخلاص!

والحال يجري -كذلك- على المعلمين الأكفاء الذين قضى بعضهم عشرين أو ثلاثين عاما في مدرسة واحدة، سخروا لها عطاءات أكثر سنوات أعمارهم نضجا ونشاطا وحيوية، ليتخرج بفضل عطائهم التعليمي والتربوي أجيال من المتعلمين، صاروا فيما بعد أساتذة وأطباء ومهندسي الزمن القادم..

لذلك فجدير بالمؤسسة التعليمية، أو بالإدارات التعليمية، أو حتى بالمدارس (على سبيل الجهود الخاصة، التي يجب أن يفضي تواترها لأن تكون عادة مدرسية حسنة)، أن توثق حضور مثل تلك الأسماء الرائدة في أهم مناحي العلم والحضارة، مع إنجازات كل منهم داخل بيئته التعليمية.

أما أشكال ذلك التوثيق التاريخي الحضاري في المدارس والإدارات التعليمية، فيمكن أن تتمثل في إجراءات متنوعة، كأن تثبت الأسماء مع إنجازاتها، من خلال (جدارية) مأمونة الحفظ، في مكان بارز داخل المنشأة التعليمية، أو أن تسجل الغرف الإدارية أو القاعات الكبرى أو المسرح المدرسي مثلا بأسماء هؤلاء الرواد من (مديري تعليم ومديري مدارس ومعلمين)..

شبابنا وهم يدخلون إلى أي منشأة رياضية داخل بلادنا، يعرفون عن ظهر قلب -من خلال ما يشاهدونه في ممرات النادي وأسماء قاعاته وملاعبه- جميع من ترأسوا ذلك النادي، وجميع من لعب فيه من أجيال متنوعة، وما حققه كل منهم من إنجازات وبطولات..

أليس جديرا -كذلك- أن تتجاوز هذه المعرفة الموثقة، لتشمل المنشآت العلمية التعليمية (بالدرجة الأولى)، باعتبارها -قبل غيرها- أكثر احتفاء بالأمانة العلمية، وتثبيت المرجعيات واحترام العلماء وأساتذة التعليم والمعرفة!!

وبعد.. فإلى متى ونحن بصدد الحديث عن التكريم والوفاء، نستحضر دائما قول الرائد محمد حسين زيدان، وهو يذكرنا في كل مرة بأنا «مجتمع دفان»؟!..

متى نكون حقا ذلك المجتمع الحضاري الذي يحتفي برموزه ورجاله الأفذاذ؟