من الكلمات الخالدة في تراثنا العربي والإسلامي، العبارة الشهيرة «من عرف نفسه عرف ربه»، وفيها تأويلات متعددة، فمن ذلك قول أحدهم «من عرف نفسه بالفناء عرف ربه بالبقاء»، أي من عرف أنه فانٍ زائل محدَث، عرف الله باقيًا لا يزول ولا يفنى، وقال أحدهم «من عرف نفسه بالضعف والنقص والعجز، عرف ربه بالقوة والكمال والقدرة».
أظن أن هذه العبارة «من عرف نفسه عرف ربه» تصلح أن تُعَدّ أساسًا لنظرية الرجل المعلق عند ابن سينا، ومن بعدِه نظرية الكوجيتو عند الفيلسوف الفرنسي ديكارت. أما ابن سينا في نظريته عن الرجل المعلّق، فهو يروم إثبات وجود الله عن طريق إثبات وجود النفس، إذ يقول «إن من رام وصف شيء من الله قبل أن يتقدم فيثبت إنّيّته [أي وجودَه]، فهو معدود عند الحكماء ممن زاغ عن محجة الإيضاح، فواجب علينا إذًا أن نتجرد أولًا لإثبات وجود القوى النفسانية... إلخ». ولهذا، افترض ابن سينا رجلًا كامل العقل معلقًا لا يشعر بجسمه، ولا يعي أي معلوم عن طريق الحواس الخمس؛ اللمس والشم والذوق والسمع والبصر، لكنه يمتلك الوعي الداخلي بوجوده، لينطلق ابن سينا فيبرهن بهذا وجود النفس وقواها ليتوصل بذلك إلى إثبات واجب الوجود تعالى، أي أنه فور أن يعي وجودَه، سيتساءل: أأنا موجود من الأزل، أم أن غيري أوجدني؟ وإذا كان غيري أوجدني فإما أن يكون محدثًا أو قديمًا، فإذا كان محدثًا فلا بد أن أحدًا أوجده، فإما أن يكون أنا! وحينئذ فكل منا أوجد الآخر، وهذا باطل لأنه دورٌ. إذ كيف يوجد محدَثٌ غيرَه وكلاهما في حالة العدم؟ وإما أن يكون من أوجده غيري، وحينئذ سيعود السؤال: من أوجد هذا الآخر؟ وهنا سنصل حتمًا إلى موجِد قديم، لأننا لو افترضنا سلسلة من الموجِدين لا تتناهى كان هذا تسلسلًا والتسلسل باطل عقلًا.
أما ديكارت فقد افترض أنه يشك في كل شيء، حتى وجوده هو ذاته، لكنه وقف عند أنه لا يمكنه أن يشك في أنه يشك ويفكّر، وإذا كان يفكّر فهذا يعني أنه موجود، ولهذا أطلق عبارته الشهيرة «أنا أفكّر، إذًا أنا موجود». وجعل معرفته بوجوده نقطة الانطلاق في المعرفة والاستدلال، غير أن مشروع ابن سينا كان إثبات النفس ليتوصل بها إلى إثبات وجود الله.
ومن هنا كان أصل الانطلاق في معرفة الله إما على نحو مباشر – كما هو الحال عند ابن سينا - أو على نحو غير مباشر – كما هو الحال عند ديكارت -، هو معرفة النفس. وإذًا، يجدر بالإنسان أن يعرف نفسه، أو يعترف بها.
أما الإنكار، إنكار النفس أصالةً، فنتيجته حتمًا الضياع في السفسطة والشك العبثي، أو نكران وجود الإله والاعتراف به وبصفاته، ونعمه، وحقوقه على العباد. فليس يقابل الاعتراف إلا الجحود والنكران. ومن ثمّ أستطيع القول: إن أصل التوحيد اعتراف. وفي إمكان القارئ أن يتأمّل أن المعرفة، والاعتراف، والعرفان، كلها مشتقة من جذر واحد (ع ر ف).
فمن عرف نفسه وأنه مخلوق ضعيف محتاج، عرف خالقه الغنيّ المنعِم المتفضل، فشعر بالعرفان والامتنان لله تعالى.
بل إن من فضائل الاعتراف بالذنوب غفرانُها، قال تعالى {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم}. فتأمّل ما يعني أن يكون العبد معترفًا غير ناكر للحق ولا جاحد له.
وكما يعرف الإنسان نفسه، ويعرف ربه، فعليه أن يعترف أيضًا بالإنسان، أن يعترف بوجود هذا الاختلاف الثقافي، وهذا التعدد الجنسي والعنصري. أن يعترف بأن غيره موجود، وأن له ثقافته، ودينه، وعوائده، وتقاليده. أن يعترف بحقه في الوجود وفي الاختلاف. فمجتمع يعرف بعضه بعضًا، ويعترف بعضه بحقوق بعض، مجتمع يعيش جمال الاعتراف وما يترتب عليه من تحالف ثقافي وتعاون وتضامن ومحبة.
ومجتمع يعترف بمجتمع آخر يحسن جواره، ويتبادل معه الاعتراف؛ لن يعتدي عليه، ولن يظلمه.
يعلمنا ديننا الاعتراف بالآخر حين يفصل العدل عن العاطفة، فالمبادئ في ذاتها صارمة، غير أن العواطف سرعان ما يعتريها التبدل والتغيّر، ولهذا يقول {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}. وفي آية أخرى يقول سبحانه {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا}. ولم يكن أشقّ على الصحابة من حرمانهم من المسجد الحرام وأداء شعائرهم فيه، ومع هذا أمرهم الله تعالى بالعدل، ونهاهم عن العدوان.
وفي الحديث «لا يشكر الله من لا يشكر الناس»، فالشكر اعتراف بنعمة المنعم، اعتراف بفضل ذي الفضل، وجحوده يصبّ في عدم الاعتراف، ومثل هذا من يشعر أنه مكتفٍ، أنه مستغنٍ عن الآخرين، لا يعترف بما عندهم من المعرفة، والعلم، وجميل العوائد، فلا يفتح قلبه، ولا عينينه ليبصر الآخرين وما عندهم، فيتآكل من داخله، لأنه فقد ما يضيفه إلى نفسه، وعاش في ثنائية الأصيل والدخيل، ظانًا أن ليس عند الآخرين ما يثري فكره، ويضاف إلى تجاربه.