العلاقات السعودية اليابانية في جوانبها السياسية والتجارية والاقتصادية والتقنية ظلت شبه نموذجية على مدى عقود، وزيارات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، لليابان عندما كان أميرا للرياض ووليا للعهد وملكا وما صاحبها في تلك الزيارات، وكذلك تبادل زيارات المسؤولين السعوديين واليابانيين، خير مؤشر على وثاقة هذه العلاقات وانسجامها وانسيابيتها واستقرارها.

لكن السعودية ليست نفطا فقط، واليابان ليست مصنعا كبيرا فقط، وإنما هناك ثقافة عميقة أصيلة، وتاريخ مغرق في القدم وراء النفط والصناعة، لم يتم العمل عليهما على نفس المستوى الذي بلغته الجوانب السياسية والتجارية والاقتصادية، مع وجود قواسم مشتركة بين مجتمعين شرقيين يحملان في جذورهما المحافظة على القيم والتقاليد والفروسية، والمروءة والنبل والعمق الروحي، ولذلك وُفّق المعهد العربي الإسلامي التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود في طوكيو، حين ترجم العلاقة بين البلدين بالنخلة والساكورا، فعمتنا النخلة رمز العطاء والتحمل والصبر والجمال والشموخ، والساكورا أو أزهار الكرز رمز الجمال والحياة سريعة الزوال، والنخلة دخلت في نسغ الحياة السعودية، وأصبحت رمزا وطقسا حياتيا وضمن عناصر شعار المملكة، في حين دخلت الساكورا رمزا في المنتجات اليابانية والفنون والمانغا والأنمي ومرافقة للساموراي والكاميكازي، كما كانت رمزا محفزا لليابانيين في الحرب العالمية الثانية.

عندما قلت إن العلاقات الثقافية لم يتم العمل عليها بالمستوى الذي عليه في الجوانب الأخرى، فإن هذا يعني أن هناك علاقات شعبية ورسمية ثقافية بدأت منذ نحو قرن من الزمان أو أقل قليلا، لم يتم استغلالها وتطويرها في مشاريع مؤسسية، وليست مجرد هبّات موسمية تسطع وتخبو وفق أشخاص وليست رؤية دولة، والملفت أنها كلها تصب ضمن مرتكزات القوة للدولة التي نهضت عليها رؤية 2030، وهي العمق الإستراتيجي العربي والإسلامي، والقدرات الاستثمارية الضخمة، والموقع الجغرافي الفريد، وجاء من ضمن أهدافها استثمار البعد الثقافي والآثاري والفني للسعودية، وبين يديّ وثائق ومراسلات للمسلمين من (الجابون) اليابان إلى علماء الحرم المكي الشريف يستفتونهم في أمور الدنيا والدين، عمرها يقل عن القرن بقليل، تعكس هذا العمق الإستراتيجي الإسلامي، وقبل نحو 80 عاما بعث الملك عبدالعزيز مستشاره حافظ وهبة إلى اليابان لحضور حفل افتتاح مسجد طوكيو، وعرض وهبة على اليابانيين في أثناء الزيارة دعوة الملك عبدالعزيز لهم لزيارة الدولة الناشئة آنذاك، وأرسلت الحكومة اليابانية فورا وفدا يتكون من الوزير المفوض في سفارة اليابان بمصر ماسويوكي يوكوياما، وتومويوشي ميتسوتشي المهندس بوزارة شؤون الصناعة والتجارة الدولية، وإيجيرو ناكانو في عام 1358هـ/ 1939م، وكتب ناكانو مشاهداتهم في جدة وسفرهم إلى الرياض والأيام العشرة التي قضوها في الرياض وقلب الجزيرة العربية، ويذكر أنه في تلك الأيام لم يكن هناك سوى القليل جدا من الأوروبيين الذين زاروا مدينة الرياض، ومعظمهم من المغامرين البريطانيين أو العسكريين أو من الدبلوماسيين، والرحلة مترجمة وطبعتها الدارة.

نلتقي منذ 2006 في اليابان بباحثين ومفكرين وإعلاميين ومسؤولين، ونشترك جميعا في العتب نفسه، وهو أن اليابانيين لا يعرفون ولا يقرؤون عن السعودية إلا من خلال الإعلام الغربي والمصادر الغربية، ونقول لهم في الوقت نفسه: إننا لا نعرف اليابان إلا من نفس المصادر التي يذكرونها، وحتى مفردات الثقافة اليابانية مثل الساموراي والجيشا والهاراكيري لا نعرفها إلا من خلال السينما الغربية التي تعرض الأمور بمنطق المنتصر وتفوق العنصر الآري، وفي أثناء لقائي بالمستعربين اليابانيين بطوكيو بدوا مندهشين حين حدثتهم عن أن ثقافتنا العربية الحية الآن عمرها أكثر من 1600 عام، وأن هناك حضارات انقرضت ولغات ميتة في الجزيرة العربية يتجاوز عمرها 2500 عام، وعندما استغربت اندهاشهم وهم باحثون وإعلاميون ومفكرون كان جوابهم المسكت عن القنوات المعرفية التي وفرناها لهم عن ثقافتنا وحضارتنا ومعلومات عن السعودية تكون بأيديهم، في حين أنهم ترجموا إلى العربية الكثير من الكتب السياسية والاقتصادية والتقنية والتربوية والأدبية والثقافية، وهززت رأسي وأنا أتذكر كمية الكتب بالعربية عن المدرسة اليابانية التي تدرس في كليات التربية لدينا وعن الإدارة اليابانية، وتطوف برأسي أسماء الروايات المترجمة التي قرأناها لليابانيين مثل ياسوناري كاواباتا، ويوكيو ميشيما، ويايكو نوغامي، وكوبو آبي، وإيشيهارا شنتارو، وغيرهم.

زيارة الملك سلمان عندما كان وليا للعهد إلى اليابان في 2014، وزيارة ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في 2016، وزيارة الملك سلمان هذا الشهر، تمثل نقلات متطورة ومتقدمة في العلاقات بين البلدين، رأيناها رأي العين، سواء في الاتفاقات ومذكرات التفاهم التي وقعت، أو في المباحثات التي سبقت وتلت الزيارات على مستوى الوزراء واللجان، أو على مستوى الاهتمام الرسمي والشعبي والإعلامي، ولعل التواصل على المستوى الثقافي والشعبي سيكون على الدرجة نفسها.