منذ وعت الثقافة العربية الإسلامية العصر «الحديث» وعت مفهوما من مفاهيم «الأصالة» في سياق جديد متقارن مع دلالة «الحديث» ومقابل لها، بحيث تتعرف بالاختلاف عنه، وأحيانا بالمضادة له ومناقضته.

وهو تقابل سياقي وموقفي وليس لفظيا، ولذلك فهو يتجاوز التقابل بين الدلالة المستجدة سياقيا وموقفيا للمفردتين، إلى التقابل بين ما يدور في مدار كل منهما من مشتقات ومرادفات ولوازم بالمعنى السياقي والموقفي المرتبط بالعصر الحديث.

فالحديث والحداثة والمحدَث مثل الجديد والمتغيِّر والعصري وما إليها من الدلالات التي تجتمع على أوصاف لحظة حديثة ومتغيرة ومحتواها، لكن في سياق أصبحت فيه هذه اللحظة من صناعة الغرب (الأوروبي الأميركي) وتأثيره، وفي موقف الشعور بالضعف والتخلف أمام قوته وجاذبيته وعدوانه.

والأصالة -في المقابل- هي القديم التقليدي التراثي الثابت الواحد والخالص، وما إلى ذلك من دلالات تجتمع على أوصاف الهوية العربية الإسلامية، في سياق الحضور الطاغي للأجنبي الغربي في كل مكونات الحداثة والمعاصرة، حضورا يستدعي أسئلة الذات عن هويتها الذاتية، ولواذها بما تعتز وتتعزَّى به.

هذه الدلالة السياقية والموقفية للأصالة مغايرة لدلالتها في المعاجم العربية التي تلتقي في بعض جوانبها مع الحديث والجديد وتصبح علامة عليه، سواء ما نجده في المعاجم من جهة دلالة الأصالة على الابتكار والإبداع، أم من جهة مناقضتها للتقليد والاتباع.

ولذلك غدا التقابل بين الأصالة والحداثة، وبين الأصالة والمعاصرة، منذ القرن التاسع عشر الميلادي، دلالة «إشكالية» في الثقافة العربية الإسلامية الحديثة، يتدافع فيها القطبان ويتجاذبان، على صعيد الفكر والثقافة، وعلى صعيد المجتمع والسياسة، ويسيل الحبر على صفحات المؤلِّفين، كما تسيل من حين لآخر الدماء في شوارع المدن أيضا...

لقد عرفت الثقافة العربية الإسلامية، الصراع بين القديم والجديد، والأصيل والدخيل وكان الجديد هو الدخيل المتأثر بالأجنبي أو المنقول عنه كما في العصر العباسي، حين أفادت حركة التأليف من الترجمة لتراث الأمم الفلسفي والمنطقي والعلمي والثقافي.

وهو أمر عرفته أيضا أمم أخرى بمن فيهم الأوروبيون، وكان أحد أوجه الصراع لديهم -مثلا- في عصر النهضة، صراع القديم اللاتيني الكنسي والجديد العربي الإسلامي، الذي مثلته «الرشدية اللاتينية» Latin Averroism نسبة إلى الفقيه والفيلسوف ابن رشد (520 - 595 هجري).

لكن القديم، في مراحل الصراع تلك، العربية والأوروبية، لم يكن يجابه قوة حاضرة ذات جدَّة شمولية وجذرية، كما هو حال المجابهة مع الغرب حديثا، التي لم يعد من الممكن مقاربتها أو وصفها من زاوية «صراع القديم والجديد»، لأن هذا الصراع مشروط بتوازن القوى أو تقاربها النسبي.

لقد تحول هذا الصراع في ضوء التحدي الغربي الحديث إلى نوع من التمزق داخل الحضارات التقليدية، وهي حالة «شيزوفرينيا» فيما يصفها داريوش شايقان، في كتابه «أوهام الهوية» «حيث يتصادم مستويان من المعرفة ينتميان إلى نمطين من العيش». وليس التجاور بين التقليدي والحديث في حياتنا إلا دلالة ذلك وعلامته.

هكذا وعينا عربيا وإسلاميا مفهوما محددا لـ«الأصالة» منذ وعينا العصر الحديث، في تقارن مع سياق التحدي الغربي وموقف منه، فهو الذي صنع وعينا بالعصر الحديث، ولولا الاكتشاف للتقدم الأوروبي، المتزامن مع حملة نابليون الاستعمارية، لما كان للزمن العربي الإسلامي حد يفصل قديمه عن حديثه.

ولم تكن حملة نابليون -بالطبع- هي الحد؛ لأن الحد المقصود هو تغير في الوعي وانعطافة في الفكر، وهو تغير في النظر إلى الذات وانعطافة إلى وعي مختلف هو الوعي بتخلفها وضعفها، لذلك اتُّخذ تاريخ الحملة علامة عليه.

وبوسعنا أن نلمح في تولد مفهوم «الأصالة» ودلالتها، في هذا السياق، القلق المزدوج تجاه الحداثة وتجاه الذات المجافية للحداثة من جهة، والمبهورة منها من جهة أخرى: قلق من آخرية الحداثة وأجنبيتها، ومن الرفض لها ومجافاتها ومن الانبهار بها؛ فهي وجوه للقلق على «الأصالة» لأنها تهديد لها.

وهذا هو موقف «النهضويين» منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين كانت الأصالة لديهم استحضارا لموقع القوة والازدهار في الحضارة الإسلامية، ولقراءة عقلانية ومقاصدية للإسلام، من أجل المحاجّة تجاه الداخل العربي الإسلامي بشأن شرعية الحداثة وإساغتها والتوفيق بينها وبين الدين الإسلامي.

وهو موقف يتضمن الزراية على تضاؤل أصالة المسلمين حديثا، بسبب جهلهم وتخلفهم واستبداد الخرافة والتقليد بعقولهم... ونحو ذلك من المواصفات المشينة التي تجافي عند الأفغاني ومحمد عبده والتونسي وأمثالهم صحيح الدين الإسلامي، وصريح الحداثة الأوروبية.

لكن «الأصالة» جنحت بعد ذلك إلى موقف المجافاة للحداثة كما المجافاة للانبهار بها، واجتمعت في هذين الوجهين، متخلية عن موقف القلق تجاه المجافاة للحداثة، ومستبدلة بهذا القلق الأخير الذي برز عند النهضويين، الهجوم على الحداثة الغربية، وعلى الغرب، والمعجبين به؛ فهي «جاهلية القرن العشرين»، كما هو الشعار القطبي الراديكالي الشهير.

ولم ينج من هذا الهجوم حتى أولئك النهضويين في القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، الذين اجتهدوا في الدفاع ضد اتهام بعض الغربيين للإسلام بالمسؤولية عن تخلف المسلمين، وبرهنوا على أن تخلف المسلمين ليس حجة ضد الإسلام (رد الشيخ محمد عبده على هانوتو ورينان- مثلا). وكتاب محمد محمد حسين «الإسلام والحضارة الغربية» (1969م) مثال من أمثلة عديدة على هذا الموقف.

وكان هذا الموقف برسم الإيديولوجيا التي تولدت منها عديد الحركات الإسلامية السياسية إلى يومنا هذا: موقف يقطع مفهوم الأصالة عن أي دلالة تاريخية أو بشرية، أو تغير وتحول؛ فهي متعالية على الزمان والمكان، ومغلقة، ومتطابقة مع تصور محدد مذهبيا وأصوليا للإسلام من وجهة هذه الحركات.

والإسلام –بداهة- هو الإسلام، ولكن الذي ينطق الإسلام ويحيله إلى ثقافة وموقف وسلوك، هو الإنسان، و«القرآن لا ينطق وإنما ينطق به الرجال» فيما قال بحق علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وهذا هو فعل «القراءة» الذي يجعل الشيخ محمد عبده -مثلا- مختلفا في وعيه للإسلام وتمثُّله له وإنتاجه للمعنى، عن البغدادي وفقهاء داعش أو طالبان أو بوكوحرام، في مسافة الزعم لدى كل منهم بأنه يمثل الإسلام.

معنى ذلك -إذن- أننا «نحن» من يحقِّق لـ«الأصل» معنى أصليته: من يختاره ويفهمه وينتج معاييره. فالأصالة هي نحن؛ لأننا مناط الفعل، ولا مسؤولية للإسلام ولا للتراث ولا للغرب، عما نفعل؛ المسؤولية مسؤوليتنا حين نتخلف ونضعف وحين نقوى ونتقدم...

وأظن أن ذلك يقودنا إلى حسبان لدعوى «الأصالة» من زاوية التوظيف الإيديولوجي لها: التوظيف الذي يقصد استخدامها والتذرع بها لفرض سلطته، واحتكارها. ومن هذه البوابة اندلع العنف الدموي من أبناء الإسلام والعروبة ضد بني جلدتهم أو منهم ضد المدنيين والمسالمين العزَّل من الغربيين، بتزوير المعاني الإسلامية للجهاد والشهادة وغيرهما من المعاني.

هكذا يتضح أن مصطلح «الأصالة» مختلف باختلاف الوجهات الفكرية والثقافية والسياقات الزمانية والمكانية، بل هو مختلف في داخل كل فصيل فكري وثقافي على حده، فهو في المؤدى غير ثابت ولا مغلق ولا أحادي، إلا لدى من يتوهمه كذلك.