الإنسان هو الثروة الحقيقية للأوطان، فبدونه لا تشتغل الآلة، ولا يرتفع البنيان، ولا تسير عجلة التنمية، وكلما ازداد الإنسان عمرا زاد كسبا، وصار جديرا بالحفاظ عليه من قوارض اليأس والوهن. وحين يكون هذا الإنسان أستاذا جامعيا قد بلغ الستين من العمر يكون قد كسب الحسنيين؛ العلم الوفير والخبرة الكبيرة، ويكون حقه الإجلال والتوقير، لأنه يفضل من هم على رأس العمل من الأساتذة والموظفين في الخبرة والمعرفة.
هذا ما تراه دول العالم من حولنا في أساتذة الجامعات الكبار، الذين يوشكون على التقاعد، أو من تقاعدوا وما زالوا يرغبون في خدمة جامعاتهم، فتجد الحاصل على درجة الأستاذية -بعد التقاعد- قد أجلس في مكتب فسيح أنيق، ووضعت في خدمته سكرتاريا تساعده على العمل وتتعلم منه أصوله، وربما كان المكتب الخاص به أكبر من مكتب رئيس القسم الشاب الذي قد كان أحد طلابه في يوم من الأيام.
أما في جامعاتنا فيتألم الأستاذ في عام تقاعده ألف مرة، بل لعل ألمه أشد من ألم بقية المتقاعدين في القطاعات الأخرى، حيث يشعر بأن إقامته في الجامعة قد أوشكت على الانتهاء، وأن السبيل الوحيد لتجديدها وتمديد فترة الاستعانة به يتطلب الدخول في مراحل بعضها مهين ومحرج، فترشيحه للبقاء فترة إضافية في الجامعة التي كان فيها أستاذا مبجلا يعتمد -أولا وقبل كل شيء- على (التصويت) الذي لا يخلو من سوء المواقف الشخصية، والذي يقوم به وعليه الأساتذة الأصغر سنا، أي من كانوا طلبته قبل بضع سنين، ما يضطره -مع رغبته في الاستمرار- إلى قبول التقاعد والانصراف تحاشيا لهذا الموقف.
يحصل ذلك مع أن وسائل التحقق من جدارة هذا الأستاذ واستحقاقه التمديد متاحة وميسرة، فكتبه ومؤلفاته وأبحاثه العلمية وجهوده الأكاديمية وأداؤه الوظيفي كلها متاح محفوظ، يمكن الرجوع إليه عند الرغبة في تمديد عمل الأستاذ، وهي وسائل موضوعية بعيدة عن الشخصنة والانفعال بالمواقف والعلاقات، وما يشوبها من إجحاف وظلم.
أخيرا، ليتنا نؤسس في جامعاتنا بيوت خبرة تستقطب هؤلاء الأساتذة الكبار بدلا من دفعهم إلى التغرب والخروج للتدريس في جامعات عربية، لأنهم آباؤنا، والأحق بتعليم أبنائنا بما يتناسب مع ثقافتنا وقيمنا المجتمعية الأصيلة.