من وفَّقَه الله تعالى لسلوك طريق الاعتدال الذي جاءت به الأدلة من الكتاب والسنة، وسار عليه خير القرون، فإنه يكون على صراط مستقيم، ومنهج مطّرد، لا يتناقض ولا يدور في فَلَك طوائف متحزبة، كل حزب بما لديهم فرحون، وإنما يقبل الحق وإن جاء ممن يكرهه، ويرد الباطل وإن جاء ممن يحبه، عملا بقوله تعالى (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين)، ومع هذا فهو ليس بفَظّ ولا غليظ القلب، وإنما يرد ما يراه خطأ بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، عملا بقوله تعالى: (وإذا قلتم فاعدلوا)، وأما من تربى على الحزبيات، فإنه يدور في فلَكها، يحب ما يحبه الحزب، ويكره ما يكرهه، لأن الولاء والبراء عند تلك الأحزاب إنما هو على أهواء أنفسهم وأحزابهم، لا على دين الله ورسوله، وهذا خلل عقدي، وتقديم للهوى على الهدى، ومن أضل ممن اتبع هواه، ولهذا قال الله تعالى لنبيه داود، عليه السلام: (فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله)، وحري بأهل العلم والفكر أن يَحْذروا تحزيب الناس، وفي هذا يقول ابن تيمية، رحمه الله: «وليس للمعلمين أن يُحزِّبوا الناس ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء، بل يكونون مثل الإخوة المتعاونين على البر والتقوى؛ كما قال تعالى: {وَتَعاوَنوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى وَلاَ تَعاوَنوا عَلَى الإثْمِ والعُدْوانِ}، وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهدا بموافقته على كل ما يريده، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، بل من فعل هذا كان من جنس جنكزخان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقا، ومن خالفهم عدوا».

وهذه الحزبيات تُربي أفرادها على قبول ما يقوله الحزب أو أحد أفراده، وإن كان خطأ، وبالتالي الدفاع عن الخطأ، وإيجاد التأويلات والمخارج لتصحيحه ما دام صدر ممن يحبونه، واعتبار من يَرُد عليه عدوا للإسلام والمسلمين، وفي المقابل: يقفون من خطأ من ليس من مجموعتهم موقفا مُتَشنِّجا، يتجاوز رد الخطأ، إلى الشخصنة، والقدح في إيمان من يرونه أخطأ، والشماتة به، وكأنهم فرحون بخطئه، يشيعونه عبر المقاطع ووسائل التواصل التي خصصوها لهذا الغرض، تحت غطاء النصح، والرد على المخالف، بينما لو كان من مجموعتهم لصمتوا صمت القبور، هذا المسلك ليس من الدين ولا من العقل ولا من الرجولة.

والمُلاحظ أن كثيرا من الأخطاء إذا وقعت في زماننا، تكون فتنة لطائفتين، طائفة تُدافع عن الخطأ، بل تُصوِّبه، لصدوره ممن يحبونه، وطائفة تذمه، وتبالغ في ذلك، لصدوره ممن يبغضونه، فتجعل ذلك الخطأ سُلَّما لهم للقدح فيه، وتصفية الحسابات، وربما إخراجه من التقوى والإيمان، والخوارج والمرجئة، بل سائر أهل الأهواء، دخل عليهم الداخل من هذا الباب.

وأما من سلك طريق الاعتدال فإنه يُعظِّم الحق، ويرحم الخلق، فلا يُجامِل أحدا بتسويغ خطئه، وإنما يرد على الخطأ، ويبين ما يراه صوابا، ويذكر الأدلة عليه، بعلم وعدل وتواضع ورفق ورحمة بالمُخالِف، ودعاء له بأن يوفقه الله للصواب، فذلك أدعى لقبول الحق، كما هو دأب الصادقين، منذ زمن النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى زماننا هذا، وكنت قرأت ردا للإمام محمد بن عبدالوهاب على أحد المخالفين ممن عاند الحق وآذى الشيخ، جاء في تلك الرسالة قوله -رحمه الله- لذلك المخالف: «إني أدعو لك في سجودي»، ولو قارنا ذلك بما يقع في كثير من السجالات اليوم لرأينا البون شاسعا، ومن أراد بيان الحق لينفع نفسه وأخاه، سيختلف أسلوبه عمن يريد الظهور لنفسه، وإسقاط غيره، كما هو دأب من لا يعيش إلا في الصراعات الباطلة، والتصنيفات الظالمة، والحزبيات المقيتة، فلا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى، وتأمل -أخي القارئ- ما ذكره شيخ الإسلام، في هذا الكلام النافع، تجده مطابقا لما عليه كثير من الناس في زماننا، يقول رحمه الله: «ومما يتعلق بهذا الباب أن يُعلم أن الرجل العظيم، في العلم والدين، من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد، مقرون بالظن، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين، ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تُعَظِّمه، فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه. وطائفة تذمه، فتجعل ذلك قادحا في ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد. والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا.

ومن سلك طريق الاعتدال عظّم من يستحق التعظيم، وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظِّم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيُحْمَد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويُحَب من وجه، ويُبْغَض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم».

وإني لأسأل الله تعالى أن يهدي الجميع لما اختُلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأن يُعافي الجميع من هذه الحزبيات التي أدت إلى اصطفافات ما أنزل الله بها من سلطان، حتى آل الأمر إلى أن بعض المغردين والقارئين ونحوهم يعجبه قول معيَّن، ويرغب أن ينشره، فلا يستطيع ذلك، لكون ذلك القول الصواب صدر ممن لا يرتضيه حزبه، وهو يخشى من عتابهم ولومهم، فأين حرية المؤمن وعزته واتباعه الحق؟!