تأخرت كثيرا في الكتابة عن أحمد أبودهمان، كنت أقول وماذا سأضيف عن رجل يقرؤه العالم بأكثر من اثنتي عشرة لغة. التقيت بأحمد عدة مرات، الأولى كانت قبل عشر سنوات، وآخرها قبل بضعة أيام، في الأولى حملت معي نسخة من «الحزام» واتجهت إليه في شيراتون جدة، وبعد حديث ولقاء مليء بما يعنيه حقا الجنوبي الخالص، والإنسان المشرق، والروائي الغامر، كتب على أول صفحة من روايته الخالدة: «كلانا كتب الآخر»، لا أنسى هذا وأثره في نفسي أبدا.

منذ أيام، في لقاء جمع بين الأدباء السعوديين والفرنسيين، غالبت الدموع صوت أحمد، وهو يقرأ علينا أكثر الصفحات أثرا، اللحظة التي يموت فيها حزام، فتتألم القرى في أنحاء العالم، «لا تأت، أرسل كتابك، وأنا سأترك لك حزامي وسكيني». دفع بالورقة إليّ لأكمل عنه، وهذا أيضا مؤثر، ولا ينسى.

حين كنا نشتم وننكر بغضب وغباء جامحين كلمة جلال الدين الرومي «الموسيقى أزيز أبواب الجنة»، كان أحمد يسجل موسيقاه العائلية، ويهدي البيوت من جهة إلى أخرى نشائده ورائحة الأرض الطيبة، وعندما كان أبناء الزمن المخبول يجحدون حقولهم، كان أبودهمان يسبق الجميع، في الضفة البعيدة، ويمجّد «طفشات» النسوة، وسواعد الفلاحين، في غاليمار.

يلزم أن تقترب من الجوهر الإنساني المدهش في أحمد نفسه، حتى لو لم يكتب كلمة واحدة، أن تعرفه أكثر، لتفهم لماذا قد يسمي زوجان حديثان مولودهما الأول باسمه، ولماذا يزرع أحد ما شجرة في فناء بيته، ويسقيها حتى تكبر، وأيضا يسميها باسمه.

«يومها غنت أمي، وعزف أبي للمرة الأخيرة، بينما كنت أقدم القهوة والشاي للنساء الجميلات، لابسا حزامي، ومسدسا حلمت بأن أحمله منذ زمن طويل، وقد أهداه لي أبي، ويومها امتدحته النساء. وأثناء الرقص كانت قوس قزحي تراني، هي التي كانت تسميني «السماء»، رأيتها تمسح بعض الدموع وهي ترقص. قلت لنفسي ربما تبكي رحيل أختي التي ستغادر القرية نهائيا، والتي ستصحبها أمي في سكنها الجديد، وتقيم معها ثلاثة أيام أو أكثر، لتوطينها ومساعدتها على امتصاص الغربة وبداياتها الحارقة. ويوم الرحيل رأيت قوس قزحي تضع صرة من القماش في يد أمي، اعتقدت أنها هدية الزواج. في الأيام الثلاثة التي استغرقها غياب أمي لم أنجح مطلقا في أن أرى تلك التي تسكن في رأسي ومخيلتي، وتملأ رائحتها روحي في كل ركن في البيت. «قوس قزحك في سماء أخرى» أسمع أبي يقولها دون تفاصيل. حملت لي تلك الصرة من القماش بعد عودتها، حملتها كما لو كنت أحمل قوس قزحي، بفرح لم أعرف مثله من قبل. لا الشعر، لا المطر، ولا الحياة أبهى من تلك اللحظة». يا للحزام!.