يستفهم كثير من أصدقائي عن سبب حديثي الدائم وكتاباتي المتكررة عن الفلسفة وسر إعجابي بها، ولا يخفون عني مللهم وتذمرهم أحيانا!

ولهم في ذلك كل الحق، فقد أهملت المناهج الدراسية العربية تدريس تاريخ الفلسفة بكليته في بعض الدول، بينما تم تقديمها من زاوية السردية الإنشائية في بلدان أخرى، لتظل الفلسفة مادة مشلولة ومشوهة في الثقافة العربية، إضافة إلى ما تعرضت له الفلسفة من ذم واتهام أهلها بالكفر والزندقة في فترات تاريخية في ثقافتنا على وجه الخصوص، وهو ما انعكس سلبا على سمعتها كعلم مهم راق ومؤثر جدا في حياة الإنسانية جمعاء. لذا قررت أن أقدم هنا لمحة مختصرة وسريعة عما فعلته الفلسفة وما زالت تفعله في تاريخ الإنسان منذ أول يوم بحث فيه عن تفسيرات مقنعة لما يحدث من حوله وطبيعة الأشياء وتراكيبها وماهيتها، وإلحاحه في طرح الأسئلة الفضولية للوصول إلى حقائق الأشياء، والتي ما زال يبحث عنها بشغف ونهم كبيرين.

المتتبع بعمق لتاريخ الفلسفة منذ أول ظهور مدون لها، وأنا أكيد من أنها سبقت عمليا كل ما وصلنا من أجزائها المدونة في التاريخ نفسه، الذي بحثت الفلسفة في متنه دائما، وعقدت صداقتها مع أحداثه تارة وعارضته بشدة في محطات تارة أخرى، وسيدرك حتما قيمة ما فعلته عبر تحولاتها على مر العصور، التي وضعت خلالها بصماتها على مسيرة البشرية الفكرية، ورتبت الكثير من معتقداته وتعاملاته أخلاقيا وثقافيا واجتماعيا، وكيف أنها تمكنت من بناء أنساق تصاعدية لا تتوقف عبر مدارس فلسفية مختلفة في كل مرة، كانت تظهر كنتيجة حتمية لما تطرقه الفلسفة من موضوعات لامست عن قرب يوميات وواقع الإنسان، وهو ما أفرز لاحقا، طرقا جديدة ونوافذ مبتكرة لرؤية الأشياء، وفهم المحيط وتفسير الغريب الذي استشكل ذات عمر على الإنسان، بطريقة منطقية في كثير من محطاتها، على الرغم من تمرد الفلسفة دائما على النماذج المنطقية، وذهابها لأبعد من التتبع الظاهري لمدلولات الأشياء بعمومها، وهذا أكبر أسرار الفلسفة وأعقدها على الإطلاق. فالفلسفة لا تؤمن بجمود الأشياء، بقدر ما تؤكد على ديناميتها الدائمة.

ولنأخذ في نظرة سريعة محطات زمنية أنتج فيها الوعي الفلسفي قواعد جديدة لفلسفة جديدة، وكيف أثرت لاحقا في الفكر والثقافة والحياة البشرية. إذا كان للتباين بين أفكار فيلسوفين هما «هيرقليطس، وبارمنديس» في مرحلة ما قبل سقراط، وما تجلى من خلاصة للبحث الدائم عن الكينونة، والذي لم يذكر التاريخ أيهما بدأ بطرح فكرته ومن رد أولا على الآخر في خلافهما حول الكينونة وماهيتها. إذ قال هيرقليطس بعدم ثبات كل الأشياء بقوله: «كل ما في الوجود هو في حالة تغير مستمر»، ومقولته الشهيرة «لا يمكنك أن تنزل في النهر ذاته مرتين» كدلالة على أن النهر قبل نزولك لم يعد هو ذاته بعد نزولك فيه، نتيجة جريان مياهه، وأن النهر كله قد تغير بشكل لم تلاحظه ربما، وفي نفس الوقت أنت أيضا تغيرت، وأصبحت أكبر عمرا، في الوقت الذي قال فيه بارمنديس «كل ما هو موجود فهو موجود»، بمعنى أن ما يتغير ليس موجودا في حقيقته، وهذا الطرح الفلسفي شكل قاعدة جديدة نقلت التفكير إلى مرحلة متقدمة للبحث في الصيرورة على نحو ما، الأمر الذي ألهم أرسطو لوصف الكينونة والصيرورة، من خلال تناوله لمصطلحي «الفعلية» التي تعني التفكير في ما نحن عليه، و«الاحتمالية» التي تعني التفكير في ما سنكون عليه.

وليعلن من خلال ذلك «أنه طالما كل الأشياء احتمالية، فإنه لا شيء موجود فعليا»، وهي الفكرة التي قادته لاحقا إلى وضع قوانين المنطق الثلاثة، المعروفة بالمنطق الأرسطي، قانون الهوية، وقانون عدم التناقض، وقانون الوسط المرفوع. وهي إحدى أهم الأفكار التي ظهرت على مستوى البشرية والكون، وما زالت تلقى رواجا كبيرا، على الرغم من ظهور أطروحات جديدة أخرى كالاستقراء مثلا، الذي يبدأ الاستدلال من الجزئي إلى الكلي سعيا إلى الوصول إلى حقائق الأشياء، بمعنى أن الحكم على كلية الشيء يبدأ عبر تحليل جزئياته.

لقد أنتج الحوار والاختلاف في الرؤية بين هيرقليطس وبارمنديس سطحا جديدا ملهما للفكر الفلسفي، كمثال أولي لما قد تفعله الفلسفة في تفكيرنا، وما تنجزه على كل المستويات في حياتنا، وسأحاول في المقالات القادمة تناول أمثلة أكثر من الحوارات الفلسفية، التي صنعت منصات جديدة دائما للحوار وازدهار الفكرة والتفكير.