يتداول الكثير في الأيام الماضية مصطلح مجتمع (الترفيه)، باعتبار غايات وأهداف الهيئة العامة المستحدثة للترفية، ولكن هل تحققت لدينا أولا الشروط الواجبة لتكون المنظومة الاجتماعية؟
يجب أن نهتم بوجود مجتمع الحياة قبل انتظار مجتمع الترفية، لأن المهمة الأولى تتضمن بالضرورة غاية الترفية والإمتاع!
فالتعريف الأشمل و(الأبسط) للمجتمع يتمثل في مجموعة من الأفراد داخل رقعة جغرافية واحدة، تجمعهم عادات وممارسات وأفكار مشتركة ومتسقة. ونحن في الحقيقة تجمعنا تلك الرقعة الجغرافية المحددة، ولكن ثمة فروقا هائلة على مستوى الأفكار (خاصة)!
نختلف حول أبسط المفاهيم، ثم نجعل من تلك الخلافات معايير، نقيس بها أمورا كبرى تتعلق بالدين والعقيدة، فيكون الشق أكبر من كل محاولات الرقع! نختلف حول مشروعية الغناء والموسيقى (حتى الآن)، ونقصي بعضنا بسبب حاجات ملحة تستجيب لنداءات الإنسان القصية في الإحساس بالجمال من خلال أجناس فنية كالمسرح والسينما وبقية الفنون الجميلة..
تقوم المعارك لأجل الولاء لأسماء ورموز (شخصية)، كنا قد وضعناها في أقصى يمين اتجاهاتنا أو أقصى اليسار!!
ولا شك أن تلك الخلافات تهدد استقرار النسيج الاجتماعي واتساقه، وتغيب مشاعر الثقة والاطمئنان والود الحقيقي بين أفراد المجتمع. كما أن الأدهى من تلك الحقيقة وجودها على مكونات اجتماعية قليلة العدد داخل المكون الاجتماعي العام (كالشارع، أو مربع واحد من مخطط الحي، أو حتى داخل الأسرة الواحدة).. ومما يهدد مفهوم المنظومة الاجتماعية لدينا -إضافة لتلك الفروقات الفكرية الهائلة- هو غياب عناصر أساسية عن المشهد الاجتماعي العام، ولعل أبرز تلك العناصر الغائبة -إضافة إلى المرأة، كما أزعم برؤية استنباطية بانورامية- الشيوخ من كبار السن، والأبناء في عمر المرحلتين الدراسيتين المتوسطة والثانوية.. أطياف غائبة عن المشهد الاجتماعي تماما.. لم نعد نراها إلا من خلال لحظات مختزلة في المساجد والمدارس والمناسبات الاجتماعية الكبرى.. نسيناهم أو تناسيناهم في غمرة حياتنا الجديدة.. لم نكن في حاجة إلى خسائر جديدة! ولكنا خسرنا بالفعل.. خسرنا صغارنا وكبارنا معا.. فقدنا متعة الشعور بنشوة الحياة وجلالها ووقارها على السواء..
شعرت بالغياب المرير لهذه المنظومة الاجتماعية أول مرة، عندما طلب مني صديق (أوروبي) أعرف ولعه بالتعرف على عادات الشعوب وثقافة الأماكن، أن أذهب به إلى أي فضاء اجتماعي داخل مدينتي جدة، بحيث يمكن له أن يشاهد فيه دراما المجتمع، والتي تجسد حياة وثقافة إنسان المدينة، فاحترت هل آخذه إلى (المولات) المتراكمة التي تغص بالبائعين وسائقي العائلات من كل الأجناس وبضع نساء وأطفال، لا يمكن أن تنبئ ملامحهم المتشابهة عن أية هوية تمثل حياة خاصة وثقافة نقية خالصة! أم أصحبه إلى الشوارع التجارية الكبرى، والتي يتكرر فيها ذات المشهد؟ أم أذهب به بعيدا صوب المنتجعات البحرية شمال المدينة، والتي اقتصر الوجود الاجتماعي فيها على طبقة مخملية واحدة، مفرغة من أية هوية ثقافية ما! وحتى لو قررت أن (أعكس) مع صاحبي الاتجاه صوب جنوب المدينة وأرافقه إلى الأحياء الشعبية الأولى، فلن نجد سوى أطلال لإنسان مر من بين دروبها قبل ما يقارب خمسة عقود من الزمن، وذكرى أبنائه وهم ينسلون بعيدا عن عبق المكان، في كل اتجاهات المدينة، (تاركين) الفرصة من جديد للعابرين من الجنسيات الوافدة التي يشعرك صخب حضورهم بأنهم وحدهم في المكان!
لم أجد في الحقيقة مكانا يسوغ لي اصطحابه إليه.. لم أجد بالفعل، وحين فكرت جديا في الأمر وجدت أن ثمة فضاء واحدا فقط -باستثناء المساجد وجوامع الجمع والأعياد- يمكن أن يجد فيه هذا (المجتمع)، وهو مدرج ملعب المدينة الرياضي الذي اعتدت الذهاب إليه بين الحين والآخر، والذي يجتمع فيه مختلف الفئات العمرية للمجتمع من الطفولة وحتى الكهولة، يستغرقون في لحظة واحدة متسقة المشاعر والأفكار والغايات والممارسات..
وبعد، فإن الخطط الاجتماعية تفقد مشروعيتها وسبل نجاحها، مع غياب المجتمع الحقيقي القادر على النهوض بغايات وأهداف تلك الخطط والبرامج! ولذلك فإن من الأجدر حقا أن نجدّ في نفض الغبار عن السكان المحليين، لإيجاد ذلك (المجتمع) الغائب، وحين نجده واقعا ملموسا، فإنه قادر بنفسه على القيام بحاجاته الطبيعية للجمال والفنون وسبل الترفيه والإمتاع. وما نشوء تلك الجماعات المتطرفة جدا في الإرهاب والعنف بيننا إلا بسبب غياب ذلك المجتمع الحقيقي الذي يشيد العلاقات بين أفراده على قيم الود والانسجام والاتزان والتكافل والتداول المثمر الفعال.
إيجاد مجتمع الحياة أهم من وجود مجتمع الترفيه، بشروط الهيئات والمؤسسات..!