المرآة السوداء (Black Mirror) مسلسل بريطاني يعتمد في بنائه على الفانتازيا من خلال عرض مفارقات الحياة بشكل دراميّ تخيّلي متطرّف. كثيراً ما وفّقت حلقاته في إثارة وتعميق الأسئلة الفلسفية المهمة لدى مشاهديها. من ذلك حلقة بعنوان (الانكفاء Nosedive) وهي حلقة تصف عالماً يتعرّض أفراده إلى التقييم المستمرّ من قبل بعضهم.  فلو افترضنا أنك تعيش في ذلك العالم، فهذا يعني حملك لجهاز تقيّم بواسطته كلّ من تتعامل معه إمّا بمنحه بعض النقاط لصالحه أو سلبها منه. كما يعني في المقابل أن تتعرّض بدورك لتقييم جميع من حولك بنفس الطريقة عند التعامل معهم. ليس ذلك فحسب بل أنّ سبل ترقّيك المهني والاجتماعي تتوقّف بكاملها على رصيدك من التقييم. فإذا أردت العمل بإحدى المرافق، أو عزمت على السكن في أحد الأحياء، فلا بدّ من أن يُنظر إلى ما أحرزته من قبول اجتماعي يكشفه رصيدك من النقاط!

كيف سيكون الأمر لو جرى عالمنا بهذه الطريقة؟ ربّما يعرف بعض القرّاء رواية جورج أورويل الشهيرة (1984) والتي عرض فيها عالماً يسير وفق هوى سلطة سياسية مستبدّة تحصي على الناس أنفاسهم، وتصادر عليهم أبسط حريّاتهم. وكيف أدى وجود ذلك الوضع إلى استلاب كل فرد يقطن في ذلك العالم من ذاته وعجزه عن العيش على حقيقته.

يبدو أنّ النتيجة لا تختلف كثيراً في الحالة التي عرضتها حلقة (الانكفاء) وإن ظهر الأمر أكثر نعومة للوهلة الأولى. فشعور المرء بأنّه تحت أشعة التقييم المسلّطة عليه يخلعه من عفويّته لعدم تحمّله سلطة النبذ أو الانتقاص. كما أنّ البشر في أحكامهم غالباً ما يتأثرون بدوافع غير منصفة أو عقلانيّة. كأن يحكموا على مجرّد السلوك الظاهر دون تأمّل في دافع أو عاقبة، وكما يحكموا متابعةً لغيرهم وفق سلوك قطيعيّ. هذا بالإضافة إلى المفارقة التي تكاد تلازم تفكير البشر عندما يتحيزون إلى السابق من الأحكام، فيزداد الرابح ربحاً والخاسر خسارة بشكل تراكميّ، وهي المفارقة التي يسمّيها الاقتصاديون (مفارقة متّى). ومع كل ذلك فإنّ أغلب البشر يتوهمون أنّهم أكثر معرفةً ممّا هم عليه في الواقع.

في ظل كل هذه النقائص البشرية يسعى الفرد إلى كسب القبول الاجتماعي متوسّلاً إيّاه لنيل الترقّي الاقتصادي ومن ثم العثور بواسطته على الرضا الذاتيّ! وهي الخطّة التي يخبرنا (إريك فروم) عالم النفس المعروف بأنّها قلّما تنجح بل أنّ مصيرها المعتاد هو وصول الفرد إلى حالة (الاغتراب)، أي فقدان الإنسان الاتّصال مع ذاته وتلاشي هويّته أمام جبروت المجتمع. وهي الحالة التي حاول العمل الدرامي عرضها بشكل أكثر سطوعاً من تنظيرات فروم.

إنّ طبيعة الإنسان المنقسمة بين حاجته الاقتصادية وحاجته الاجتماعية هي ما يخلق فيه مثل هذا التناقض. وذلك عندما يسعى إلى قبول الآخرين من خلال حيازة الممتلكات، ويسعى إلى حيازة الممتلكات بواسطة قبول الآخرين. مثل هذا هو ما يمكن أن يدخله في دوّامة لا نهائية تصل به إلى مرحلة (الاغتراب) وفق تعبير فروم.

عندما نضع هذه النتيجة إزاء تلك التي حاول أن يضعنا أمامها أورويل ونحوه ممّن طرقوا آثار تغوّل السلطة على المجتمع. نجد أنّ الفرق بينهما من حيث تجويف الإنسان وسلبه هويّته مشابه تقريباً للفرق بين درجة صفر ودرجة 360! فانفلات المجتمع من كل سلطة عليا بحيث يصبح سلطة مطلقة في ذاته ليس أكثر إنسانية من رضوخه لسلطة قمعيّة جامدة الرؤية.

ربما لا وجود في عالمنا الذي نعرفه لهاتين الصورتين المتطرفتين، ولكنّ ظلال كليهما تحكم عالمنا في الوقت نفسه. ولعلّ هذا سبب تصديق الواقع لعبارة أوسكار وايلد المفعمة بالمرارة «معظم الناس أناس آخرون، أفكارهم آراء مستعارة، وحياتهم تقليد، ومشاعرهم اقتباس».