ورد في بعض الأحاديث أن رجلا جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: إن تحتي امرأة من أحب الناس إليّ، لا ترد يد لامس! فأمره النبي بفراقها، فقال له الرجل: لا أصبر عنها، أو قال: إني أحبّها، فقال له النبي الكريم: فاستمتع بها.
لن أخوض في جدل المحدثين في تصحيح هذا الحديث وقبوله، أو في رفضه وردّه، كما لن أخوض في جدلهم واختلافهم في تفسيره وتأويله؛ فهذا مما لا يهمّني في هذا الموضع. غير أن ما يهمّني هو تعبير الرجل المشتكِي «لا تردّ يد لامس».
وكذلك تاريخنا العربي والإسلامي، بل تراثنا العربي والإسلامي كله؛ لا يردّ يد لامس! ولئلا أتشبّع بما لم أُعط، فإني مدينٌ بهذا القياس إلى أحد الفضلاء الباحثين المختصين بالتاريخ.
إن هذا التراث بكل ما فيه، وهذا التاريخ بعجره وبجره هو تاريخنا -شئنا أم أبينا- وهو جزء لا يتجزأ من هويتنا وكينونتنا، فإذا قطعنا صلتنا بالتاريخ، وقطعنا صلتنا بالتراث -كما يدعو إلى ذلك بعض من حرمه الله نعمة العقل- فقدنا أنفسنا، وغدونا كائنات فضائية!
ليست دعوى «القطيعة الجذرية» مع التراث والتاريخ إلا وهمًا من الأوهام، وضلالة من الضلالات، بل هي إلى أن تكون تهويم حالم، أو هذيان سكران، أقرب من أن تكون نتيجة باحث، أو فلسفة مفكّر؛ ولا أجد سببا على متناول اليد أقرب من هذه اللغة التي نتكلم بها، ونعبّر بها عن أنفسنا، فاللفظة من ألفاظنا مكتنزة كل الاكتناز بالتراث والتاريخ، ولهذا مبحث آخر.
لماذا كان تاريخنا لا يردّ يد لامس؟ لأنه -ببساطة- فيه كل شيء! من شاء أن يصور التاريخ أمجادا متلاحقة، وملاحم بطولية نادرة، ودفاعا عن الحقوق، وبسطا للعدل؛ لم يعوزه أن يجد من الأمثلة والقصص والنماذج ما يؤيد به مسلكه.
ومن شاء أن يصور التاريخ جرائم متتابعة، وخيانات متلاحقة، وانتشارا للظلم؛ لم يعوزه أن يجد من الأمثلة والقصص والنماذج ما يؤيد به مسلكه كذلك.
وهذان فريقان يختصمان!
فريق لا يرى التاريخ إلا أنوارا وجنانا خضرا تغرد فيها العصافير، وفريق لا يرى التاريخ إلا جهنم حمراء تعوي فيها الذئاب. وكل من أولئك «ينتقي» ما يشاء، بحسب الهوى، و«الأيديولوجيا». هذا همّه الحفاظ على عصمة «الأشخاص» والرموز الكرام الذين لا يمكن -عنده- تخطئتهم، ولا يجوز نقدهم. وهذا همّه تحطيم تلك الرموز، وتحميلهم تبعة التخلّف والتأخر الذي نعيشه. والمجنيّ عليه في هذا النزاع هو «الموضوعية»، و«الوعي». وإذًا، لا يمكننا النهوض من جديد؛ لأن الوعي مزيف، والهوى حاكم، والعقل مغيّب، وكل ذي رأي معجب برأيه، مهما كان ضالا ومخطئا.
من الناس من يجعل التاريخ مقدسا، خطا أحمر، بل إن عقيدته كلها قائمة على أحداث تاريخية! إذا نُقِدت فعقيدته هي التي نُقِدت. ولا أرى الاعتماد على أحداث تاريخية، ظنية الثبوت، ظنية الدلالة، إلا بناء لقصر شامخ على بيت عنكبوت!
يقف في وجه هذا الفريق خصومُه الذين يفحصون رواياته، ويبينون وهاءها وضعفها، غير أن هذا الفريق «الخصم» عينه، يتمسك بروايات قابلة للنقد هو الآخر، هي أيضا ظنية الثبوت، ظنية الدلالة! وبين الفريقين عبر العصور ثارات ومشكلات، بل تصفيات ومَقاتل. بل هذا الفريق الخصم نفسه؛ لا يقبل من أحد أن ينقد تاريخه، أو يحاول إثارة الأسئلة حوله، تاريخ المتأخرين -كبعض أبطال القرن الخامس الهجري- فضلا عن تاريخ المتقدمين!
سمعت أيام الصبا روايات جمّة على ألسنة الوعاظ، عن بطولات بعض الرموز الكبار في مختلف عصور التاريخ الإسلامي، وتلقيتها بقلب خاشع، ودمع ذارف، وتعظيم آخذ بمجامع نفسي. حتى ما إذا رجعت إلى المصادر، وأطلت القراءة والتأمل، وجدت أن هؤلاء الأبطال -وهم أبطال حقًا- ليسوا إلا بشرا فيهم مواطن للمدح، كما فيهم مواطن للنقد، بعضها كارثيّ حقا، كانت له مآلاته غير المحمودة في الأمّة. وإذا لم يكن البشر -حتى العظماء منهم- كذلك؛ فما فائدة قراءة التاريخ إذًا، ولماذا أمر الله في كتابه في غير موطن النظر في أخبار الأمم، والاتعاظ والاعتبار بما جرى لهم؟ ثم نجد الله تعالى يقول بعد ذكر أخبار السابقين في القرآن: {تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عما كانوا يعملون}.
غير أن المسلمين اليوم، يسأل بعضهم بعضا عما فعلت الأمم الخالية، ويحملونهم مسؤولية ما كانوا يعملون! وهذا بالضبط هو الغياب عن لحظتنا التاريخية الراهنة، والعيش في لحظات تاريخية غابرة، يقتل بعضنا بعضا من أجلها؛ فيغدو التاريخ الغابر حيا بيننا، وكأن ما جرى قبل ألف وثلاثمئة عام جرى قبل يومين!
ما أعلمه وأعتقده أننا نقرأ التاريخ للاتعاظ والاعتبار ثم التجاوز، لا لنعلق به كما يعلق الفأر في المصيدة!